رافقت الرئيس الأسبق «مبارك» فى طائرته إلى مدينة «أسوان» لتفقُّد بعض المشروعات التى كان يُتابعها بنفسه، وبعد أن قضينا هناك ساعات الصباح قرَّر الرئيس عند الظهيرة العودة، ولكنَّه فى الطريق رأى أن يتَّجه إلى «الغردقة» لزيارة محافظة «البحر الأحمر» والاطمئنان على وجود المحافظ والجهاز الإدارى فى المدينة؛ إذ إنه يبدو أن معلومات كانت لديه بأنهم لا يُوجدون بانتظام، ويهرعون إلى «القاهرة» بمناسبة، وبغير مناسبة.
وبالفعل، كانت الزيارة خاطفةً وسِرِّيةً تمامًا، وهبطت بنا الطائرة فى مطار «الغردقة»، ووجدنا اثنين فقط من الطيَّارين فى استقبالنا؛ إذ يبدو أنهما من التلاميذ المُباشرين للرئيس «مبارك»، حيث ائتمنهما على سِرِّية الزيارة ليستفيد بعُنصر المُفاجأة لمعرفة الأوضاع فى تلك المُحافظة المهمة سياحيًّا، واقتصاديًّا، واستراتيجيًّا أيضًا.
وأخذ الرئيس «مبارك» سيارة «لادا» مُتواضعة قادها بنفسه، وبجانبه اللواء «رضا سالم» قائد الحراسة، وفى المقعد الخلفى أجلس أنا وبجوارى اللواء «شريف عمر» مدير أمن رئيس الجمهورية.
وسأل الرئيس عن عنوان شركة «بيع المصنوعات»؛ فقد كان يُحبُّ الاطِّلاعَ على ما يُوجد فى الأسواق، وعن التَّقدُّم فى الصناعات المحلية وإرضاء أذواق المستهلكين، وقد وضع الرئيس على عينيه نظارة سوداء بحيث يصعب التَّعرُّف عليه إلا بالتدقيق الكامل، ومع ذلك لاحظتُ ونحن فى الطريق أن بعض السيارات المُقابلة أو الأشخاص الموجودين بالصُّدفة عندما ينظرون إلى الرئيس يُعيدون النظر مرَّةً ثانيةً، ثم يرفضون ذلك الاحتمال ويُفسِّرونه بينهم وبين أنفسهم أن الله «يخلق من الشبه أربعين كما يقولون»! ودخلنا شركة «بيع المصنوعات»، واتَّجه الرئيس وحده إلى البائعة، وطلب منها أن يرى المفروشات الجديدة، فبدأت تسحب بعض القطع فى استهتارٍ زائدٍ، وهى تلوكُ قطعةً من «اللبان» بغير اهتمام، وربَّما لم تنظر إلى الزبون ذاته، وبدأت تُقدِّم ما لديها والرئيس لا يتحدَّث إلا بكلمات قليلة، ولكن لا أعرف ما الذى حدث، فقد حانت من البائعة التفاتة وتفحَّصت الزبون القادم، ثم صرخت بصوت مرتفع: الرئيس، الرئيس، فنهرها الرئيس «مبارك»، وطلب منها الصمت ومواصلة العمل، ولكنها لم تتمكَّن من مواصلة ما تفعل، وبدأت تُنادى كل من فى المحل: إنه ليس شبيه الرئيس، إنه الرئيس نفسه!
عندئذٍ التفَّ العاملون فى المحل حول الرئيس فى ثوانٍ قليلةٍ، وما هى إلا دقائق معدودة وكان المحافظ ومدير الأمن وقيادات محافظة «البحر الأحمر» يُحيطون بالمكان، وقد ظهرت على وجوههم الدهشة والسعادة معًا بهذه الزيارة المُفاجئة، والتى لم تنجح؛ إذ أفسدتها صرخات البائعة مع أوَّل مكان يصل إليه الرئيس مُتصوِّرًا أن ذلك سوف يسمح له بأن يرى الأمور على الطبيعة دون استعداد أو تزييف.
ولعلِّى أُسجِّل هنا أن جزءًا من مُعاناة الرئيس «مبارك»، وربَّما كل الرؤساء، هو الحرمان من الحياة الطبيعية، ولقد سمعتُ الرئيس يتحدَّث كثيرًا عن سعادته عندما كان يتمشَّى وهو ضابط فى القوات الجوية ومعه ابناه «علاء» و«جمال» يتسوَّقون فى «مصر الجديدة»، ويستمتعون بـ«فاترينات» المحلات فى «ميدان روكسى».
وأظن أن الرئيس قد حاول أيضًا فى الخارج أن يتمشَّى فى بعض الأسواق على طبيعته، ولكن كانت الصدمة تأتى دائمًا عندما يتعرَّف عليه أحد المواطنين العرب أو الأجانب أو المصريين –بالطبع- فتنهار الخطة، وتفسد المُحاولة، ولا يتمكَّن الرئيس من زيارة محل معين إلا إذا جرى الإعداد لذلك وبترتيب خاص يجعلها مُصطنعة وغير مُريحة، ويكون ذلك فى أوقات مُبكِّرة من الصباح، حتى إن بعض المحلات الصغيرة كان يمكن أن تُفتح خصيصًا للرؤساء وكبار المسئولين بترتيب مُعيَّن فى غير مواعيدها المعروفة حتى تُعطيهم مساحةً للاستمتاع بالحياة، مثل غيرهم من البشر.
وأنا أذكر أن الأستاذ «هيكل» قد كتب مقالاً عن «الصقيع عند القمة»، أى عُزلة الرئيس أو المَلِك بين جدران قصره، أو وسط أقرب مُعاونيه، بحيث لا يستطيع أن يرى الناس، حتى إن الرئيس الراحل «عبدالناصر» كان يتجوَّل بسيارة يقودها مُتخفِّيًا فى بعض شوارع «القاهرة» حتى يشعر بأنه إنسان طبيعى.
ولقد علمتُ أيضًا أن الرئيس الراحل «السادات» قد ترك الحراسة ذات مساءٍ واتَّجه بسيارته إلى «شاطئ النيل»، وجاء عند أحد «الأكشاك» التى تبيع المشروبات المثلجة وطلب زجاجة «بيبسى»، وبدأ يشربها، وإذا بالبائع يكتشفه ويصرخ فجأةً هو الآخر: الرئيس، الرئيس، فتضيع مُتعة الرئيس «السادات»، ويترك المكان على الفور.. إنها محنة الرؤساء، وأزمة العظماء، وضريبة الشُّهرة!
مصطفى الفقي ;
مجلة 7 أيام العدد
تاريخ النشر: 22 ديسمبر 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%b9%d9%86%d8%af%d9%85%d8%a7-%d8%b2%d8%a7%d8%b1-%d9%85%d8%a8%d8%a7%d8%b1%d9%83-%d8%a7%d9%84%d8%ba%d8%b1%d8%af%d9%82%d8%a9-%d9%81%d8%ac%d8%a3%d8%a9%d9%8b/