بعد تخرُّجى فى كلية «الاقتصاد والعلوم السياسية» (جامعة القاهرة) فى يونيو عام 1966 عُيِّنتُ فى وزارة الخارجية مُلحقًا دبلوماسيًّا فى 8 ديسمبر من نفس العام، ومكثتُ فى ديوان عام الوزارة خمس سنوات، حيث كانت الترقيات شحيحةً، والتنقُّلات بطيئةً بسبب ظروف حرب 1967 التى داهمت جيلى فى مطلع حياتنا.
وفى سبتمبر 1971 جرى نقلى إلى القنصلية المصرية العامة فى «لندن»، وكنت قد سجَّلت للحصول على درجة الماجستير من «جامعة القاهرة»، وقرَّرتُ فور وصولى للعاصمة البريطانية أن أستأنف دراستى، وبدأتُ أبحث بين الجامعات، واستمعتُ إلى نصيحة الدبلوماسى والإعلامى المصرى الكبير الراحل «تحسين بشير» الذى رأى أنَّ أنسب مكان لى يكون فى «كلية الدراسات الشرقية والأفريقية»، وبإشراف من الأستاذ «د.فاتيكيوتس»، أستاذ العلوم السياسية الشهير بـ«جامعة لندن»، وهو يونانى الأصل تخرَّج فى «جامعة إنديانا» الأمريكية، وعاش فى المشرق العربى فترةً من حياته، ثم تزوَّج بيهودية مصرية من أسرة «سورناجا» رُوَّاد مصانع «الخزف والصينى».
وطلبت منِّى الجامعة –وقتها- أن أتقدَّم بأسماء من يرجعون إليهم ويطلبون منهم تقريرًا عن حالتى العلمية، وقد تكفَّل بهذا الأمر أستاذاى الفاضلان «د.بطرس بطرس غالى»، و«د.عبدالملك عودة».
وعندما اكتمل ملف التقديم كانت الدرجة التى جرى تسكينى عليها هى «ماجستير الفلسفة فى الاقتصاد والعلوم السياسية»، والتى تحوَّلت بعد عامين إلى «دكتوراه الفلسفة فى العلوم السياسية»، وقد اقترحتُ على أستاذى البريطانى موضوعًا سال له لعابه عام 1971 بعد رحيل «عبدالناصر» بسنة واحدة، ووفاة «البابا كيرلس السادس»، وظهور بوادر صدامات طائفية لم يكن جيلى قد عرفها من قبل، لذلك اخترت موضوع «الأقباط فى السياسة المصرية» مع دراسة تطبيقية على سيرة «مكرم عبيد» سكرتير عام «حزب الأغلبية»، والذى كان يحظى بشعبية طاغية على مستوى الوطن كله، وليس على المستوى الطائفى فقط.
وقد قطعت شوطًا طويلاً امتد لأكثر من خمس سنوات فى إعداد أطروحة الدكتوراه، متنقلاً بين مكتبة «المتحف البريطانى»، و«مركز الوثائق البريطانية» حتى توفَّرت لدىَّ حصيلة هائلة من المعلومات الموثقة والمراجع المباشرة، والتى تدور كلها حول موضوع الرسالة، وكان أكثر ما يشدُّنى ما كنت أراه فى مكاتبات المندوب السامى البريطانى فى «القاهرة» إلى حكومته فى «لندن»، وكيف تناول عُتاة وزارة المُستعمرات البريطانية، ثم وزارة الخارجية بعدها، أحداث «مصر»، وتطوُّرات الأمور فيها، وقد بهرتنى الصفحات المطوية ذات الطابع السِّرى حول الشخصيات السياسية على مسرح الحياة العامة فى «مصر».
ومازلت أتذكَّر لقاءً بين الدكتور «نجيب باشا محفوظ» والمُعتمد البريطانى، وبين «الشيخ المراغى»، والمندوب السامى، وأُتيح لى بذلك أن أتابع تحليلات موضوعية لشخصيات السياسيين على المسرح والرأى البريطانى فيهم، ومن بينهم «الملك فاروق» الذى كان يُسمِّيه اللورد «كيلرن» (الولد)؛ استخفافًا بشأنه، وإشارة إلى صغر سِنِّه.
كما درست وجهة النظر البريطانية فى حادث 4 فبراير عام 1942، وكيف اضطرت «لندن» للجوء إلى «النحاس باشا» لتشكيل حكومة تُحافظ على استقرار البلاد فى ظل أنواء الحرب التى كانت تدور رحاها حينذاك، كما عرفتُ رأى «لندن» فى «على ماهر»، و«أحمد ماهر»، و«مكرم عبيد»، و«إسماعيل صدقى»، و«النقراشى»، و«أحمد حسنين»، وغيرهم، وتحليلهم لـ«حريق القاهرة» 26 يناير عام 1952، واتصالاتهم المستمرة مع جماعة «الإخوان المسلمين» وعداءهم الشديد لـ«سعد زغلول»، ومن بعده «النحاس»، وغيرهما من كوادر «الوفد» المعروفة بالصلابة وشدَّة المراس.
واكتشفتُ عن يقين أن «لندن» هى أكثر عواصم العالم خبرة بشئون «الشرق الأوسط» الذى كانوا يُسمُّونه فى البداية «الشرق الأدنى» لأنهم عارفون بتفاصيل مشكلاته وأزماته، بل ويقفون وراء الكثير منها.
أعود إلى مسار دراستى وكيف أمضيت سنوات العمل فى السفارة جنبًا إلى جنب مع دراستى العُليا، وعندما انتهت مُدَّة خدمتى الدبلوماسية حصلت على إجازة بدون مرتَّب لمدة عامين أستكمل فيهما ما بدأته، وذلك تحت الإشراف العلمى والإدارى لمكتب البعثة التعليمية فى العاصمة البريطانية، رغم أن الدراسة كانت على نفقتى الخاصة.
وعندما جاء يوم 26 أغسطس عام 1977 انعقدت لجنة المناقشة لامتحانى فى الدكتوراه، وكان النظام البريطانى حينذاك لا يربط بين انعقاد اللجنة والحصول بالضرورة على الدرجة، فقد لا يحصل عليها الطالب ويطلب منه الممتحنون العودة للامتحان مرَّةً أخرى بعد مدة لا تقل عن ستة أشهر أحيانًا، ولا تزيد على عام ونصف العام فى أسوأ الحالات، وقد كان من حظِّى أن المُمتحن الخارجى بروفيسور شهير مازال له نشاطه حتى الآن فى «جامعة هارفارد» الأمريكية، وأعنى به «د. روجر أوين»، وإذا كنتُ أنسى فلن أنسى ما حييت أنه بعد مُناقشة مع الأساتذة المُمتحنين -وبينهم مُشرف الرسالة- وبعد حوار معى امتدَّ لأكثر من ساعتين طلبوا منِّى الخروج قليلاً من القاعة حتى تتَّخذ اللجنة قرارها، ثم استدعانى «د.فاتيكيوتس» بصوت مرتفع قائلاً باللغة العربية: «مبروك»، وكانت أوَّل مرة أسمعه يتحدَّث العربية، رغم مُضىِّ أكثر من خمس سنوات من التعامل المُستمر معه لم يتحدَّث معى فيها باللغة العربية، ولو لمرَّةٍ واحدةٍ، ثم أضاف: «إنك حصلت على الدرجة من أوَّل مرَّةٍ، وأنت الآن لست طالبًا، ولكنَّك زميل وصديق أيضًا».
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام
تاريخ النشر: 4 يناير 2018
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/26-%d8%a3%d8%ba%d8%b3%d8%b7%d8%b3-1977/