عندما تمَّ اختيارى مديرًا لـ«مكتبة الإسكندرية» فى مايو 2017 كان علىَّ أن أجد مكانًا لإقامتى فى العاصمة الثَّانية، خصوصًا أننى سوف أقضى أربعة أيام على الأقل أسبوعيًّا بجوار المكتبة على أن أباشر عملى من مكاتبها فى «القاهرة» باقى الأسبوع، فبدأتُ أبحث بين الفنادق عن مكانٍ لإقامتى فى المدينة التى كانت ذات يوم «عروس البحر المتوسط»، وانتهى قرارى إلى الاتِّجاه نحو أعرق فنادق العاصمة وهو «سيسل» الذى تديره حاليًا شركةٌ ألمانيةٌ، ويقع فى «محطة الرمل» مُطلاً على البحر، وبالفعل ذهبتُ إلى الفندق والتقيتُ مديره الذى قال لى: «إننا سوف نعطيك واحدةً من أعزِّ الحجرات لدينا، وهى المُسماة باسم (عميد الأدب العربى)؛ لأن الدكتور (طه حسين) كان مُتعودًا على الإقامة فيها كلما جاء إلى الإسكندرية»، ورحبتُ بذلك ترحيبًا شديدًا، وأضاف مدير الفندق: «الحجرة على ناصية وترى البحر من جانبين، وقد كان د.طه حسين يتأمل البحر من الشُّرفتين مستمتعًا بهوائه وجماله»، فقلتُ له: «ولكن عميد الأدب العربى كان كفيفًا فكيف به يرى البحر على النحو الذى تقول»، فأجابنى: «لقد كان فاقد البصر ولكنه لم يكن فاقدًا للبصيرة، لقد كان يرى بحواسه الأخرى ومشاعره الفيَّاضة»، وعندما أعربتُ عن خشيتى من ضوضاء المنطقة خصوصًا أن الحجرة فى الدور الثَّالث، أجابنى بأن إغلاق النَّوافذ مُحكمٌ وعلى طرازٍ حديثٍ يمنع ذلك، وقد كان ما قاله صحيحًا، وكلما دخلتُ إلى الحجرة ووجدتُ اسم د.طه حسين على بابها انتابنى شعورٌ عميقٌ بالسَّعادة والرِّضا، فأنا أنزل فى مكانٍ شرَّفه ذلك العبقرى الذى نسميه «موسيقار العبارة» فى تاريخ اللغة العربية، بينما نسمِّى العقاد «نحَّات الفكرة».
وأرى أن د.طه حسين قد قطع طريقًا طويلاً للغاية من قرية «الكيلو» فى محافظة المنيا إلى أروقة الأزهر الشَّريف، ثم إلى العاصمة الفرنسيَّة، ليعود بقرينته ونور حياته ويبدأ مشوارًا ضخمًا فى الأدب والسِّياسة وحركة التَّعليم والثَّقافة، وينير أمامنا الطَّريق على نحو غير مسبوق، ومَنْ يتأمل سيرته فى كتابه «الأيام» سيدرك كم كان شخصيةً استثنائيةً وموهبةً مُتفردةً لم يضاهها أحدٌ منذ أبى العَلاء المَعَرِّى حتى يومنا هذا، وكنتُ قد عكفتُ فى طفولتى على التهام كتبه وكتب العقاد وروايات توفيق الحكيم، الأب الشَّرعى للمسرح العربى، وقد راعنى كثيرًا طه حسين بلغته الجذَّابة وأسلوبه الرَّائع وثقافته الواسعة، ولدىَّ أسطوانات بصوته تهزُّ الأعماق هزًّا، وتوقظ لدى المرء مشاعر يصعب وصفها.
وكلما جلستُ فى حجرته راجعتُ صفحات كتاب سيرته «الأيام» ووصفه الدَّقيق لترقيع حذاء يصعب على المُبصر أن يصل إلى ذلك الوصف مهما بلغت قوة ملاحظته، وأتذكر أيضًا كتابه «على هامش السيرة»، وأقف عند كتابه المحورى «مستقبل الثقافة فى مصر»، وأتأمل بعد ذلك بقية العقد الفريد من مؤلفات «عميد الأدب العربى» الذى تحوَّل أحدها إلى فيلمٍ ذاع صيته وأعنى به «دعاء الكروان»، وأتابع تسجيلات «حديث الأربعاء» فى مقر الجامعة الأمريكية بميدان التحرير، وأتذكر رئاسته لمجلة «الكاتب المصرى» على الرغم ممَّا لحق بها من شُبهات سياسيَّة وعقائديَّة، ثم أعيش معه معاركه الضَّارية من «الشعر الجاهلى» إلى «الأدب الجاهلى»، وكيف انتصر دائمًا فى معارك التَّنوير والحداثة، وتصدَّى لعُتاة التَّخلف ودعاة الجمود، وتعرَّض فى سبيل ذلك لضربات قوية وحملات ظالمة، وتأملتُ كيف تألق كأول مديرٍ لجامعة الإسكندرية ثم كيف أصبح ذلك الضَّرير وزيرًا لـ«المعارف»، وعندما اكتشف «النحاس باشا» أن «طه حسين» يحمل «البكوية» فقط طلب من الملك يوم أداء اليمين منحه هو وزميل آخر رتبة الباشاوية، وعندما ردَّ «الفاروق» بأن ليس هذا وقته صاح «النحاس باشا» مُناديًا «طه حسين» بأن يأتى ليشكر جلالة الملك فقد تعطف عليه بـ«الباشاوية»، فانتزعها له بالإحراج، ومن خلال موقفٍ علنىٍّ، لإدراك زعيم الوفد أن «عميد الأدب العربى» يستحق ذلك وأكثر! ولقد أصرَّ «النحاس باشا» على تعيين «طه حسين» وزيرًا على الرغم من تردد الملك، حتى ارتبط اسم ذلك الكفيف العظيم بعبارة «التعليم كالماء والهواء»، فأصبح من رواد المجانية ودعاة التَّوسُّع فى تعليم الأجيال الجديدة، وأنا أعتز شخصيًّا بصلةٍ خاصَّةٍ تربطنى بـ«عميد الأدب العربى»؛ لأننا نشترك فى يوم المولد، وهو الرابع عشر من نوفمبر، فهو مولود فيه عام 1889 وأنا مولود فيه عام 1944، ورغم الفارق الكبير فى العمر فإننى أتمسح فى ذلك التَّاريخ منذ وعيتُ الأمر فى بواكير الطُّفولة، ولقد فاجأتنى إدارة فندق «سيسل» –الذى ينفرد بمصعدين أثريين يستخدمهما رواد الفندق– بصورةٍ كبيرةٍ ورائعةٍ لـ«عميد الأدب العربى» تم وضعها مؤخرًا فى الحجرة التى تحمل اسمه، فأصبحتُ أطلُّ على وجهه صباح مساء، وأشعر باعتزازٍ خاصٍّ لأننى أقيم فى حجرة «عميد الأدب العربى»!
د. مصطفي الفقي;
مجلة 7 ايام العدد
تاريخ النشر: 11 يناير 2018
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%ad%d8%ac%d8%b1%d8%a9-%d8%b7%d9%87-%d8%ad%d8%b3%d9%8a%d9%86/