هذه بالتأكيد مذكرات من نوع جديد.. بأسلوب جديد لم تفرضه فقط رحلة الزمان والمكان بل فرضته أيضا شخصية صاحبها الذى تسير حياته فى مسار من التسلسل الزمنى، ولكن أيضا فى مسار أفقى يفرض نفسه على الرواية، وهو يكتب روايته بين الأزمة والأمكنة فتأتى مذكراته فى النهاية وكأنها بانوراما.
أنت تراه اليوم مديرا لمكتبة الإسكندرية، ولكنك تراه أيضا فى مقالات بالصحف المصرية والعربية، ثم تراه مساءً محاورا دائما فى البرامج التليفزيونية ولكنك لا تعلم أنه بين مكتبة الإسكندرية وبرامج المساء يشارك عضوا فى لجان الامتحانات الشفوية للملحقين الدبلوماسيين، وعندما يتحدد موعد لاجتماع المجلس الأعلى للثقافة فإنك ستراه هناك عضوا مؤثرا. قرأت رواية د. مصطفى الفقى ورحلته فى الزمان والمكان، قرأتها كما يقولون من الجلدة للجلدة، وقرأت هذا الحشد الكبير من المعلومات والذكريات وتقييم الأحداث والرجال.. وإن كان فى عبارات أو حتى كلمات بسيطة ولكنها تكفى لإعطاء الصورة. جاء د. مصطفى إلى الدبلوماسية بقرار جمهورى كما يقول، وهو شيء غير مألوف فى الخارجية التى يتم الدخول إليها من بوابة امتحانات صارمة تحريريا وشفويا.. ولكن د. مصطفى كانت قد سبقته إلى الخارجية سنوات من العمل السياسى فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وهى فى بداية عهدها وزهوتها.
كان لقائى الأول معه فى مكتب الراحل العظيم أسامة الباز، ولما سألته عمن هو هذا الشاب الجديد فى مكتبه كان من أهم ما ذكره موهبته الخطابية التى يمكن أن تتجلى لو وقف خطيبا فى ميدان التحرير. والواقع أن هذا الخطيب الذى بدأ وهو فى مرحلة دراسته الابتدائية، واصل تنمية موهبته فى مدرسة دمنهور الثانوية ثم فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية مما أهله للعمل السياسى وهو فى دراسته الجامعية، فكان فى منظمة الشباب كما كان فى التنظيم الطليعى للحزب الاشتراكى.. فكان هذا العمل السياسى فى مرحلة الجامعة هو الذى أهله ليكون واحدا من مجموعة الشباب الذين صدر قرار جمهورى بتعيينهم فى الخارجية المصرية. ولكن مرحلة التأسيس لهذه الشخصية الاستثنائية بدأت قبل الجامعة، بدأت فى محافظة البحيرة من قرية كوم النصر بتفتيش المغازى باشا.. وهناك بدأ فى اكتشاف حبه للخطابة وموهبته التى عمل على تنميتها وهو فى أولى مراحل دراسته، فكان يذهب إلى حظيرة الدجاج ويخطب فى الدجاج ثم يعتبر رفرفة الدجاج بأجنحته تصفيقا له. طاف بنا الدكتور مصطفى فى رحلته بين الأزمنة والأمكنة فى الداخل حيث عمل لثمانية أعوام مع الرئيس مبارك، وفى حيوات مصر الفكرية والنيابية والإعلامية.. كما طاف بنا فى المواقع الدبلوماسية الأخرى التى شغلها أو عمل بها. كانت لندن بالنسبة له هى أم المدائن فيها درس وحصل على الدكتوراه، ثم العمل فى القنصلية المصرية لسنوات تعرف فيها على عدد هائل من الشخصيات المصرية والعربية والبريطانية بطبيعة الحال.. وأخذنا إلى الهند بلاد العجائب والغرائب وإلى النمسا وكتب عن أيام الفكر فى فيينا وليته كتب أيضا عن ليالى الأنس فى فيينا- عن عالم الفن والموسيقى والأوبرا والمتاحف بل المقاهى.. كتب كل ذلك وأكثر فكانت تلك البانوراما.. رحلة الزمان والمكان. أما فى الداخل فقد كان الانتقال ابتداءًا من باب أنه خطيب مفوه، كان الانتقال من قرية كوم النصر إلى دمنهور العاصمة والمدينة العتيدة بمثابة نقلة نوعية اكتشف فيها أكثر مما اكتشفت بالقرية موهبته فى الخطابة. لم تكن الخطابة وحدها هى التى نماها ولكن كانت القراءة أيضا التى ساعدته بعد ذلك فى أن يكون كاتبا مرموقا فكتب عشرات الكتب ومئات المقالات. ذهب فى دمنهور إلى مكتبة البلدية، وكانت مكتبات البلدية فى مدن مصر ملاذات لمن يريد أن يقرأ ويتعلم، ليصبح بعد ذلك أديبا أو كاتبا أو أستاذ جامعة، أو غير ذلك من مناصب.. وقد قرأ فى مكتبة دمنهور وتأثر بالمنفلوطى وطه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم وغيرهم، ونحن الآن فى مكتبة مصر العامة نحاول أن نعيد عهد مكتبات البلدية بإنشاء المكتبات الإقليمية وفروعها التى أصبحت تضم عشرين مكتبة منتشرة فى أربع عشرة محافظة.
وإذا كانت بوادر الخطيب ظهرت فى كوم النصر فإن بوادر الكاتب قد ظهرت فى دمنهور.. كما ظهرت بوادر انشغاله بالعمل العام عندما أصبح مسؤولا عن اتحاد طلاب محافظة البحيرة، ثم ظهرت هذه البوادر فى فترة الجامعة عندما التحق بهذه الكلية الجديدة؛ كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وتعاصر ذلك مع الفترة التى جرى فيهما تطوير العمل الحزبى للحزب الاشتراكى بإنشاء منظمة الشباب، والتنظيم الطليعى، وكان طبيعيا أن يلفت الشاب الخطيب الكاتب الأنظار للقائمين على تطوير حزب الدولة أى الحزب الاشتراكى، وعندما تخرج الشاب الواعد من الكلية طامحا أن يكون دبلوماسيا جاءه التعيين فى الخارجية دون عناء.. أصبح كما يقول دبلوماسيا بقرار جمهورى.. وانفتح أمامه عالم الدبلوماسية الرحب، سواء فى الداخل متمثلا فى العمل مع نجوم الدبلوماسية المصرية آنذاك... خاصة مع الراحل العظيم دكتور أسامة الباز وأستاذه السابق بطرس غالى. كان عمل د. مصطفى فى مكتب د. أسامة بداية انطلاقة فى الساحة الداخلية التى قادته للعمل مع الرئيس مبارك سكرتيرا للمعلومات فيما بعد. لم يكتب فقط عن فترة عمله مع مبارك بل كتب أيضا عن الأزهر والكنيسة وعن نجوم الفكر والأدب والفن.. ثم كتب عن حياته كعضو فى مجلس الشعب وعن الناس فيمن عرف ومن التقى ومن سمع عنهم.. إنها بعض الأزمنة والأمكنة التى حفلت بها بانوراما الدكتور مصطفى الفقى.
لا أعتقد أن هناك من شاهد وشارك فى الحياة العامة فى مصر بما فى ذلك الحياة السياسية عبر الخمسين عاما الماضية مثلما شارك د. مصطفى من مواقعه المختلفة سواءً مع الرئيس مبارك أو عضوا فى مجلس الشعب وفى المجالس القومية المختلفة، وفى الكتابة فى الصحف والظهور الإعلامى على التليفزيون.. فى العمل الدبلوماسى فى الداخل والخارج حيث كان مرشحا ليكون أمينا عاما لجامعة الدول العربية.. ثم يأتى مديرا لمكتبة الإسكندرية، ثم يأتى أخيرا ليكون هو الراوى لهذه الرواية البديعة رحلة فى الزمان والمكان.
فى «رحلة الزمان والمكان»، الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، كنت أسارع القراءة لأننى أريد أن أصل إلى بيت القصيد، كنت تواقا إلى أن أصل إلى الختام.. ختام مرحلة مبارك التى عاشها د. مصطفى بالطول والعرض وشهد المقدمات والنذر وترهل النظام وانتشار العشوائيات وتدهور التعليم.. ثم رأى ما كان يجرى لإعداد المسرح للتوريث، حيث ذهبت آمال وجاءت آمال أخرى.. كيف جاءت أحداث 25 يناير لتقلب صفحة من تاريخ مصر وتبدأ صفحة جديدة.. وفترة حكم الإخوان.. ثم ثورة 30 يونيو.. والانتقال إلى مشهد جديد من مشاهد الرحلة. وتظل السيرة الذاتية مستمرة ومستمرة فيما يكتبه فى الصحف التى يكتب فيها، وفى الكتب التى ينشرها وفى البرامج التليفزيونية التى يظهر فيها، بينما هو مدير لمكتبة الإسكندرية.
لقد استمتعت بقراءة رحلة الزمان والمكان لراويها التى دارت عبر الخمسين عاما الماضية، بدءا من الخطب التى كان يلقيها أمام الدجاج إلى الخطب التى كان يكتبها سواء كان هو الذى ألقاها أو كتبها ليلقيها الرئيس فى مصر فى مجلس الشعب، وغيرها من المناسبات الهامة، أو فى خارج مصر. وعندما تقرأ الرواية ستجد نفسك مع رحلة مثيرة ومتشعبة وممتعة لسيرة ذاتية أو بالأحرى لرواية تستحق أن تروى فى رحلة للزمان والمكان.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2242878