أرشيف «يناير»
تعلّمت من أساتذتى وزملائى الكبار فى الصحافة أن يكون لى أرشيفى الخاص. أجمع فيه أعمالى التى نشرتها، سواء كانت أخبارًا أو حوارات أو تحقيقات أو مقالات. الأسلوب التقليدى للأرشيف هو الاحتفاظ بالمطبوعة كاملة أو قصقصة العمل الصحفى المراد فقط، وجمعها فى ملفات كبيرة. رأيت رؤساء تحرير وقيادات كبرى يبالغون بتجميل هذه الملفات فى أسلوب شبيه بما يقوم به الزملاء المتقدمون للجان القيد بنقابة الصحفيين.
قبل ثلاث سنوات، قررت أن أساير التكنولوجيا الحديثة، وأكتفى بالاحتفاظ بأرشيف رقمى. اشتريت ذاكرة رقمية hard disk بسعة «وان تيرا» ونقلت عليها كل أرشيفى وأرشيف صحيفتى المصرى اليوم خلال رحلة عملى هنا منذ البداية فى يونيو ٢٠٠٤.
قلبت فى هذا الأرشيف الغنى مؤخرا. أحسست بالبهجة والحنين، وأحيانا بالاستغراب، وأنا أغوص فى مانشيتات ساخنة ومقالات جريئة. فى تحقيقات وأخبار وصور نقلتنى إلى حوادث كبرى وإلى قضايا وانفرادات وأزمات صنعتها الصحيفة، وأفادتنا فى مسيرتنا وانتشارنا.
توقفت عند أرشيف ثورة يناير. لم أبدأه من يوم ٢٥، ولا من الأسبوع السابق لخروج المظاهرات الحاشدة، لكنى عدت للوراء، لانتخابات ٢٠٠٥ ولمظاهرات المحلة، للركود البرلمانى والرئاسى. لتجاوزات الأمن هنا وهناك. لسيناريو التوريث وما جرى فيه، وصولًا للانتخابات النيابية فى ٢٠١٠. الأرشيف لا يكذب أبدًا فى شأن هذه القضايا.
حتى مع مسار المظاهرات، لغة الأرشيف وحقائقه مختلفة تمامًا. ذاكرتنا الحالية أعيتها الدعايات الثقيلة، وشوشت عليها. ادعاءات من الخصوم بأن الثورة كانت مؤامرة، وممولة من الخارج وقادها شباب مُخرب تحالف مع الإخوان المسلمين، رغم أن رئيس الدولة بنفسه يؤكد أن ثورة يناير قادها شباب مخلصون.
أرشيفى الشخصى ومع خروج المظاهرات، يتضمن ستة أعمال صحفية، ما بين مقال وقصة خبرية. اللغة الحماسية الثورية كانت هى السائدة بالطبع. كان لدينا سيل من الحقائق والمعلومات. الجماهير متعطشة للمعلومة الدقيقة. تريد أن تعرف حقيقة ما يجرى فى الميادين. مَن أمر بإطلاق النيران على الشباب، ومَن سمح بالانفلات الأمني؟.
زملائى فى صالة التحرير، من أقسام المجتمع المدنى والحوادث والمالتى ميديا والتحقيقات والأخيرة، قدموا الكثير والكثير لتغطية الأحداث بصدق وأمانة.
ومع تنحى مبارك بدأوا فى تفسير وتحليل ما جرى.
اهتموا بلجان تقصى الحقائق. بتشكيلها وزياراتها للميادين والمستشفيات والسجون. نشروا عن الشهداء وعن المصابين. أنتجوا موضوعات استقصائية جريئة عن موقف الإخوان من المظاهرات.. ومتى تبدلت هذه القناعات. أداء بقية الإسلاميين فى الميادين. رحلة هروب المساجين، وخاصة قيادات محسوبة على حماس وحزب الله، وكيف وصلوا إلى غزة.
رحلتى فى الأرشيف، توقفت عند استفتاء التعديلات الدستورية فى ١٩ مارس ٢٠١١، والمشهور لدينا حاليا بـ«غزوة الصناديق». عندها كنت على يقين بأن الثورة سُرقت فعليًا.
قبل ذلك، هناك فى أرشيفنا، وفى أرشيف كل الصحف الزميلة، حتى القومى منها، إجابات شبه متكاملة وصادقة عن كل الأسئلة. أعتقد أن هذا الأرشيف سُتعاد له الحياة مرة أخرى فى ظروف مختلفة، أو سيتم استخدامه كأحد مصادر كتابة التاريخ الصحيح لهذه الثورة المجيدة.
رواية «الفقى»
مذكرات الدكتور مصطفى الفقى الصادرة حديثًا عن «الدار المصرية اللبنانية» تحت اسم «الرواية رحلة الزمان والمكان» خرجت بشكل مثالى من حيث الشكل والمضمون. بل أعتبرها من أروع المذكرات التى قرأتها مؤخراً.
أنا مُهتم بقراءة مذكرات المشاهير، وأجد أن فيهم من يعتمد أسلوبًا صعبًا أو خشنًا. ومن يُحوّل كتابه إلى منتدى شخصى للانتصار لمواقفه وأفكاره. وهناك من يجعل فصول كتابه مجموعة من المواعظ وكأن صاحبها هو نجم زمانه الأوحد!.
الدكتور مصطفى الفقى مفكر وسياسى وكاتب من طراز مختلف. يمكن أن نطلق عليه المثقف الحكّاء. له جمهور واسع على شاشات الفضائيات ولمقالاته الصحفية التى يعتمد فيها لغة السرد وإن تضمنت الكثير من الأفكار والمواقف. لو تم إنتاج برنامج خاص به ليحكى من خلاله ذكرياته وتجاربه وقراءاته التاريخية والسياسية لحقق نجاحًا فريدًا. برنامج شبيه بما كان يقدمه الكاتب والمؤرخ الراحل جمال بدوى.
لغة الفقى فى مذكراته هادئة جدًا، وإن كان فيها جرأة على نفسه وعلى من حوله وصولًا للرؤساء الذين تعامل معهم. وهنا، لا أرى أى منطق فى انتقاد عائلة الرئيس الأسبق حسنى مبارك لما قاله الفقى فى حقه. لقد كانت «الرواية» منصفة إلى حد كبير فى حق مبارك. والفقى ليس الأعنف الذى يوجه انتقادات حقيقية لبعض سياسات مبارك وأسلوب حياته وإدارته.
الفقى، أعتقد أنه دأب على تسجيل يومياته فى وقت مبكر جدًا من حياته العامة. آلاف الحكايات التى أخذنا اليها، لا يمكن أن تستوعبها ذاكرته فى نهايات ٢٠٢٠. لكن أكثر ما أعجبنى فى الكتاب قدرته على الاستطراد لاستكمال كل حكاية جانبية يصل إليها، ثم يعود لمسار روايته فى نفس الزمان والمكان. إنها موهبة فى التركيز والصياغة.
وفى النهاية، عندى اقتراح للفقى، وأتمنى أن يُفكر فيه وأن يحوله لمجموعة مقالات أو يتناوله على الشاشة.
هو كتب عن رسالة وجهها، فى نوفمبر ١٩٨١، وهو دبلوماسى يعمل بسفارتنا بالهند، للدكتور أسامة الباز، المستشار السياسى للرئيس مبارك، تتضمن رؤية شاب مصرى لمستقبل الحكم الجديد.
كان من ضمن ما كتبه الفقى كتوصيات أو اقتراحات بأهمية تقليص نفوذ العناصر المرفوضة جماهيريًا، والاهتمام بالقيادات الجامعية، وأهمية البحث عن الكفاءات الصحفية الجيدة وعدم الاعتماد على الأسماء التى لا رصيد لها من الموهبة أو الكفاءة، وتوجيه اهتمام خاص بالأزهر والكنيسة.
معظم هذه الاقتراحات ما زالت صالحة ومطلوبة الآن، وصوت الفقى مسموع. ومؤسسات الدولة بما فيها مؤسسة الرئاسة تثق فيه وتحترمه.. ليته يوجه نصائح شبيهة للقيادة السياسية.
بشر قناوى
انضم الأستاذ الدكتور بشر قناوى، هذا الأسبوع، إلى قافلة الأطباء الشهداء الذين أوقع بهم فيروس كورونا اللعين.
رحمة الله على الدكتور بشر، وأدخله فسيح جناته، جزاءً عن عطائه العلمى وميادين الخير التى سعى إليها فى الداخل والخارج.
هو واحد من أعظم أساتذة العيون فى مصر، وظل حتى رحيله رئيسًا لمجلس إدارة مستشفى العيون الدولى.
تعرّفت عليه من خلال التردد على عيادته بعد أن أوصانى به طبيب صديق. توثقت العلاقة به أكثر مع عمل ابنته نادين قناوى معنا فى قسم الأخبار بالمصرى اليوم. وكانت من أذكى وأشطر الصحفيين الذين عملوا معنا. وحققت نجاحات مماثلة فى الاستوديوهات والفضائيات العربية والأجنبية خلال تلك الفترة.. لكنها فضّلت اعتزال المهنة فى وقت مبكر.
كتبت الكاتبة الصحفية الزميلة أسماء الحسينى على صفحتها الشخصية عزاءً عظيمًا للدكتور بشر، ذكرت فيه أنه كان سبّاقًا بالمشاركة فى قوافل الخير الطبية للسودان.
وأنا أتذكر هنا موقفًا نبيلًا للدكتور بشر مع سقوط عشرات المصابين بالخرطوش فى العيون خلال ثورة يناير.
اتصل بى وعرض أن يقوم مستشفى العيون الدولى وبالمجان بعلاج كل المصابين بطلقات الخرطوش. وأرسل لى بالفعل بهذه المبادرة. نقلتها على الفور للزميل مجدى الجلاد، رئيس التحرير، الذى تحمس لها، بل بادر باتخاذ قرار رائع بأن ننشر المبادرة كإعلان مجانى فى الصفحات الأولى.. لو عدتم لأرشيفنا لعثرتم على هذا الإعلان.
لم نقصد، أنا أو غيرى من الزملاء، الدكتور بشر فى عمل خير إلا واستجاب على الفور. بالفعل كان قيمة علمية وإنسانية لن تتكرر.
خالص العزاء لعائلته ولابنته الصديقة نادين.
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2244908