عاشت البشرية عصورًا سحيقة في ظل كيانات متباعدة ومجتمعات قد لا يعرف بعضها بعضًا إلى أن ظهرت الكيانات الضخمة في ظل الحضارات الكبيرة وبدأت ملامح العالم القديم بقاراته الثلاث تتشكل لدى كل منها وظهر الإحساس بالجوار ولعبت التجارة الدولية دورها كما مارست الحروب العالمية تأثيرها وأصبحنا أمام تكتلات واضحة، فبعض حضارات البحر المتوسط فيها تأثيرات الحضارة الفرعونية الملهمة وحضارة الثقافة السياسية والجدل الفلسفي الإغريقية وحضارة الفنون والأذواق الرومانية التي رفعت شعار السلام الروماني (Pax Romana) للسيطرة على قلب العالم وحوض المتوسط وغرب أوروبا وغرب آسيا وشمال إفريقيا، وغرست تلك الحضارات قيمًا أوروبية بالدرجة الأولى قبل عصر الاكتشافات الجغرافية عندما نشط الأسبان والبرتغال في الاتجاه غربًا للوصول إلى الهند شرقًا، وعرف الإنسان في تلك الأزمنة درجات عالية من المعاناة اختلطت فيها الدماء بالمجاعات مع الصراعات القومية حتى تبلورت ملامح عصر النهضة والثورة الصناعية فأصبحنا أمام عالم مختلف تزدهر فيه القيم الأوروبية من حيث الملبس والمأكل وأساليب التعامل حتى وإن اختلفت الأصول والأعراق وتباينت الجذور والمنابع، وعندما ظهر العملاق الأمريكي على الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي بدأنا ندرك أن عالمًا مختلفًا يتشكل بقيم أمريكية وأنماط استهلاك جديدة حتى انصهرت تلك التحولات في بوتقة العالم الغربي عمومًا في وقت كان فيه المارد الصيني في جنوب شرق آسيا يستيقظ من حرب الأفيون وسنوات الفقر والهوان باحثًا عن هويته متمسكًا بحضارته حتى برزت القارة الإفريقية كمستودع للقوى الجديدة في الولايات الأمريكية، وفي ظل أقسى أنواع القهر والعبودية التي مارسها الإنسان الأبيض على الأجناس السمراء والصفراء، فأصبحنا نرى مظاهر التسلط ونوازع الاستبداد تسيطر على أنحاء مختلفة من نقاط الالتقاء بين حضارة الرجل الأبيض وشركائه في الحياة داخل آسيا وإفريقيا بل والولايات المتحدة مع بدايات تشكيلها، ولازلنا نتذكر حرب الجنوب لتحرير العبيد والتي ظلت عقودًا فإذا الرجل الأبيض ينسى تاريخه الأسود ويبشر بأفكار جديدة تتحدث عن المساواة والعدالة وتتبنى بعض شعارات الثورة الفرنسية ويلبس خلالها المبشرون مسوح القديسين في رغبة جامحة لغرس قيم أوروبا الحديثة القائمة على شراكة مسيحية يهودية تمتد من شرق أوروبا إلى غرب الولايات المتحدة الأمريكية حتى أصبحنا جميعًا أبناء تلك الثقافة المنتمين عمومًا إلى الحضارة الغربية بما لها وما عليها، وأسهم التعليم والبحث العلمي والتفوق التكنولوجي إسهامًا كبيرًا في نشر القيم الغربية والتبشير بها أمام التراجع الملحوظ لكثير من الثقافات الشرقية في ظل شيوع الخرافات والفهم المغلوط للديانات والعبث بالعقول في ردة واضحة ظهرت في القرون الأخيرة وتركت بصمات سلبية أدت إلى تشويه وجه كثير من دول الجنوب برغم كل المحاولات لمواجهة الصعاب والتغلب على التحديات التي فرضت معاناة شديدة على الدول المقهورة، فأطاحت بقيمها وغيرت من هويتها وطرحت على امتداد الكوكب كله القيم الغربية التي أصبحت هي العامل المشترك واللغة الوسيطة بين البشر مهما اختلفت القوميات والديانات والأصول والأعراق، ولقد لاحظنا – كما لاحظ الكثيرون – أن القيم الغربية قد بدأت تهتز في العقود الأخيرة وهبت عليها رياح عاصفة كشفت العوار الذي تعاني منه وفتحت باب الانتقادات الشديدة لتلك الحضارة المادية البحتة المفرغة من مضمون أخلاقي ثابت برغم ترديد شعارات تدور حول الحريات وحقوق الإنسان واحترام الأقليات وغير ذلك من الكلمات البراقة والعبارات الرنانة والشعارات التي تبدو وكأنها حق يراد به باطل، ولقد جاء وباء الكورونا ليكشف الغطاء عن المجتمعات الغربية المتقدمة ويثبت أنها غير قادرة على الوفاء بالالتزامات الأساسية لشعوبها ناهيك عن مساعدة غيرها حتى دخل البيت الأبيض رئيس مستبد وعنيد يعبر عن القيم العنصرية والشعور المطلق بسيادة الجنس الأبيض مع تطرف ديني وأوهام ضبابية جعلته لا يدرك ما يفعل في ظل ثورة المعلومات وسرعة الاتصالات وإيقاع حياة العصر، ولنا هنا ملاحظتان:
أولًا: إننا لا نعبر بهذه السطور عن نزعة عنصرية على الجانب الآخر بل نرى أن في الحضارة الغربية في القرون الأخيرة إيجابيات لا يمكن إنكارها خصوصًا ما يتصل بالتقدم العلمي وتوظيف التعليم لخدمة الصناعة وصولًا إلى تكنولوجيا العصر عبر كثير من الاكتشافات الكبرى والاختراعات الهامة التي أضاءت الدنيا وأحدثت نقلة نوعية في شتى العلوم والمعارف وانعكست على الأبحاث الطبية بشكل يصعب إنكاره، ولكن الذي نجادل فيه هو أن تلك التحولات الملموسة لم تقترن بنقلة نوعية في القيم والتقاليد والأعراف والأخلاق.
ثانيًا: لقد بدأت الاختلافات الدينية تطل من جديد في إطار الخلافات البشرية وأطل التعصب البغيض بوجهه القبيح على البشرية وكدنا ندخل في مواجهات ذات طابع ديني يصطدم بمفاهيم الإيمان المطلق الذي يمثل تجسيدًا للهوية نتيجة التراكم الطويل لذكريات المواجهات السابقة سواءً في حروب الفرنجة المسماة ظلمًا بالحروب الصليبية ونقاط الالتقاء حول حوض البحر المتوسط – بحيرة الحضارات الكبرى – وصولًا إلى خطاب الكراهية المتبادل والذي تجمعت إفرازاته الأخيرة عند ميلاد ظاهرة الإسلاموفوبيا، ولن يستعيد العالم مكانته وكرامته معًا إلا باحترام العقائد والبعد عن الإساءة للأديان وإدراك أن الإيمان أمر يتصل بوجدان البشر قبل عقولهم لذلك يستحيل تغييره ويصعب التشكيك فيه.
إن ما نشعر به من اهتزاز للقيم الغربية إنما يبشر في الوقت ذاته بميلاد قيم عصرية جديدة تتمشى مع القرية الكونية الواحدة التي نعيش فيها وتخضع لمعايير جديدة وقواعد أكثر عدالة، فكلنا في قارب واحد إما أن ننجو به جميعًا أو نغرق بغير استثناء.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 2 فبراير 2021.