أسم كبير لا يمكن اختصاره في صفة واحدة، أو تحجيم أدواره أو قصرها على عمل مُعين، فهو السياسي البارع، والدبلوماسي ذائع الصيت، والأكاديمي الذي لا يُشق له غُبار، والمُفكر الكبير، والمُثقف الموسوعي، والكاتب الجماهيري، مصطفى الفقي، وهو التاريخ الطويل من العلم والمعرفة، وهو الشاهد على العديد من الأحداث الفارقة في عمر مصر والوطن العربي.
تجاوزت رحلة الدكتور مصطفى الفقي العامرة بالمفارقات ثلاثة أرباع القرن، رحلة مديدة، تنقل خلالها بين محطات مختلفة، وأماكن عدة، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تسيطر إحداها على الأخرى، أو تختزلها، أو تفرض جلالها وقدرتها عليها، وإنما جميع المحطات في حياته كانت كل في واحد، يشد بعضه البعض، ويؤثر في بعضه البعض، ليخرج لنا في النهاية ثمرة ذلك المشوار الطويل.
لم يكن هذا الاسم الكبير وليد الصدفة، فقد تشكل بعد رحلة طويلة، في محطات عدة، حفرت أسمه بحروف من نور، وكان لازامًا عليه أن يدون مسرته ورحلته الطويلة التي ستُعاد وتروى لأجيال طويلة، وها هي المذكرات النابضة مترامية الأطراف، تحكي لنا سيرته منذ الطفولة المُبكرة في قريته الكائنة بريف البحيرة، حتى أصبح أسمه ملء السمع والبصر، مصريًا وعربيًا وإفريقيًا ودوليًا.
مؤخرًا در عن الدار المصرية اللبنانية كتاب مذكراته "الرواية ..رحلة الزمان والمكان"، والذي يُعد أكثر من كتاب سيرة عن حياة إنسان، إنه رصد عميق لتفاصيل رحلة عامرة، يميط خلالها اللثام عن كواليس هامة، ويفتح خلالها العديد من الملفات الحساسة شديدة السخونة، والتي كان بطبيعة الحال شاهدا عليها، أو مُشاركًا في صنع أحداثها، والتي يقول خلالها أنه يُقدّم الحقيقة كما عاشها دون أقنعة أو زيف، مستعينا بتصدير لـ"كاكفا" يقول فيه: "خجلت من نفسي عندما أدركت أن الحياة حفلة تنكرية، أنا حضرتها بوجهي الحقيقي."
عشرون فصلا، يتضمنها الكتاب، إضافة إلى مقدمة وخاتمة بالخلاصات والدروس المستفادة من تلك الرحلة والمشوار الطويل، تميزت بحسها السردي الروائي البعيد كل البعد عن اللغة العلمية الجامدة. يسرد "الفقي" قرابة الخمسة وسبعين سنة من حياته وتجربته وما مربه، ليست تجربته وحسب، وإنما حياة مصر بتفاصيلها التي كان شاهدًا عليها، لم يغض الطرف عن لحظة شائكة أو حرجة، ولم يشيح بوجهه عن واقعة أو أزمة أو إشكالية.
في رحلته الممتعة يصطحب الفي قارئه، ليستعيد معه المكان والزمان، وجزء كبير من حياته، تارة يذهب إلى أيام الطفولة وتأثيرها المُبكر على تشكيله وخلق وجدانه، منطلقًا منها إلى أيام الجامعة وسنواتها الحالمة، متجهًا بنا إلى اللحظات المفصلية في حياته، حيث العمل في سلك الدبلوماسية المصرية.
ويناقش الفقي في مذكراته عديد من الإشكاليات التي فرضت نفسها على المشهد السياسي المصري، في مؤسسات مختلفة مثل الأزهر الشريف والكنيسة، ومؤسسة القضاء، وأدوارها المُشرفة في الحفاظ على مكانة الدولة المصرية، كما يكشف الدكتور مصطفى الفقي كواليس وأحداث خروجه من قصر الرئاسة، وهي الأحداث والكواليس التي تضمنت بعض الغموض والتي ظلت حبيسة صندوقه الأسود لسنوات طويلة.
لم يغفل الدكتور مصطفى الفقي في مذكراته الفترة التي حمل خلالها نائبًا برلمانيًا، بل سلط الضوء على الكثير من اللحظات المثيرة في هذه الفترة، ثم يحكي لنا كواليس ترشحه للجامعة العربية وما تخللها من مؤامرات لإسقاطه والاطاحة به بعيدًا عن رئاستها، ثم ينتهي إلى كواليس رئاسته لمكتبة الإسكندرية، ولا يغفل الفقي وهو في خضم هذا الكم الهائل من السرد والذكريات أن يتناول ويحلل ثورتي وتأمل ثورتي الخامس والعشرين من يناير، و30 يونيو، كلحظات فارقة من في عمر الوطن.
وجاء الكتاب مكونا من عدة فصول يسبقها مقدمة ويليها خاتمة، حيث جاء الفصل الأول تحت عنوان، سنوات النشأة من القرية إلى الجامعة، وجاء الفصل الثاني بعنوان دبلوماسي بقرار جمهوري، والفصل الثالث الحياة في لندن.. أم المدائن، والرابع حمل عنوان أجازة دبلوماسية وانشغال أكاديمي، بينما حمل الفصل الخامس عنوان دبلوماسي في بلاد العجائب والغرائب، والفصل السادس في قصر الرئاسة.. ثمانية أعوام مع مبارك.
وجاء الفصل السابع بعنوان مبارك.. الأزهر.. الكنيسة.. القضاء، والفصل الثامن السياسة الخارجية "الدولية والإقليمية"، والتاسع جاء تحت عنوان الخروج من الرئاسة.. ميلاد جديد، والفصل العاشرلقاءات برموز السلطة في العالم العربي، بينما جاء الفصل الحادي عشر حاملا عنوان مصر مبارك.. مراكز السلطة ومظاهر القوة، والفصل الثاني عشر في صحبة نجوم الفكر والأدب والفن، وجاء الفصل الثالث عشر تحت عنوان أيام النمسا وليالي الفكر في فيينا.
وجاء الفصل الرابع عشر تحت عنوان تحت قبة البرلمان.. حكايات المجلس وانتخابات دمنهور، والفصل الخامس عشر بعنوان على أعتاب الجامعة العربية، والفصل السادس عشر جاء بعنوان خطايا مبارك وبداية السقوط، وجاء الفصل السابع عشر تحت عنوان 25 يناير و30 يونيو.. ثورة شعب، وجاء الفصل الثامن عشر والأخير تحت عنوان حكايتي مع مكتبة الإسكندرية.
https://www.alhilalalyoum.com/776184