يجد قارئ مذكرات الدكتور مصطفي الفقي، التي صدرت عن الدار المصرية- اللبنانية قبل أسابيع، نفسه أمام معضلة حقيقية، فالمذكرات فيها خط سياسي لاشك فيه يؤرخ لمرحلة من تاريخ مصر تمتد من منتصف القرن الماضي حتى الآن، لكن المذكرات أيضاً فيها خط إنساني مهم يكشف عن حصيلة من العلاقات الاجتماعية بالغة التشعب تَمَيَزَ بها صاحب المذكرات. وبالتالي فإن مَن يختار أن يمشي مع أحد الخطين دون الخط الآخر فإنه في الواقع إنما يكون قد قرأ نصف المذكرات أو يكون قد قرأ هذه المذكرات بعين واحدة. وعليه ولما كنت قد مشيت مع الخط السياسي في مقال كتبته للأهرام يوم السبت الماضي فإنني أحب أن أمشي على الخط الإنساني في مقال الشروق.
لقد أتاحت شبكة العلاقات الاجتماعية الواسعة التي نسجها الدكتور الفقي مع طيف بالغ التنوع من الشخصيات العامة داخل مصر وخارجها، أتاحت له القدرة على التوسط لقضاء حوائج الناس كبيرها وصغيرها. وعلى المستوى الشخصي اختبرتُ بنفسي هذه القدرة في عدة مناسبات، أختار منها مناسبتين. المناسبة الأولى عندما لجأت ُله للتوسط لإلحاق حفيدتي بمدرسة معينة، وكانت أسرة ابني تتناول معي وزوجي إفطار يوم الجمعة كالمعتاد، فاتصلتُ بالدكتور الفقي وسألتهُ إن كانت له صلة بمديرة المدرسة ورد بالإيجاب، أنهيتُ إليه طلبي فوعدني خيراً وانتهت المكالمة. وبعد عشر دقائق بالضبط أعاد طلبي ليبشرني بأن الطلب قد قُبل وأنه يتعين على أسرة ابني التوجه لدفع المصروفات المدرسية يوم الأحد!، ولم يصدّق ابني وزوجته أن يُجاب طلبهما بهذا اليسر وفي يوم إجازة، لكن هذا ما حدث. المناسبة الثانية عندما لجأتُ إليه لحل مشكلة كبيرة واجهتني أثناء عملي في معهد البحوث والدراسات العربية، وتدَخَل بالفعل لدى شخصيات عربية رفيعة المستوى، صحيح لم تُحَل المشكلة في حينها لكن يظل له فضل السعي وليس للإنسان إلا ما سعى. أخلص من ذلك إلى أن كاتب المذكرات بوسعه التدخل لدى مديرة مدرسة في أمر بسيط وفي مجال بعيد تماماً عن مجال تخصصه، كما أن بوسعه التدخل لدى شخصيات نافذة في أمر معقد يتصل بمجال الدبلوماسية، وفي مذكراته شيء من هذا وذاك. في أثناء دراسته بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية- التي كان رئيساً لاتحاد طلابها- سأله مدرّس شاب بالكلية أن يتوسط في طلب يد زميلة له، وفي العادة لا يحدث أن يطلب عضو هيئة تدريس من أحد طلابه مثل هذا الأمر الشخصي، لكنه حدث. مشي الفقي إلى زميلته ليبثها مشاعر المدرس المتيّم بحبها فاعتذرت له برفق، وعندما علم الدكتور عبد الملك عودة- وهو أستاذ لا يُشَقُ له غبار في العلم وخفة الظل معاً- افتتح محاضرته بالقول "أود أن أقدم التهنئة للزميل مصطفي الفقي، رئيس الاتحاد، الذي أصبح يعمل خاطبة!". بعد تخرجه من الكلية، صُدم الفقي بنبأ صدور حكم من المحكمة العسكرية بإعدام زميله المجند، وكانت التهمة الموجهة لهذا الزميل هي الإهمال لأن الصهاينة اقتحموا الموقع الذي يخدم فيه وسرقوا الرادار. أبرق الفقي وزملاؤه إلى الرئيس عبد الناصر لتخفيف الحكم ووسّطوا هدى ابنة الرئيس- وهي خريجة نفس كُليتهم- حتى تتدخل لإنقاذ حياة شاب محدود الخبرة العسكرية، وبالفعل تدخلَت وتم تخفيف الحكم من الإعدام إلى السجن .
***
أما روح الدعابة التي تتخلل المذكرات فهذه حكايتها حكاية، وأظن أن تَحَلّي الدكتور الفقي بهذه الروح المرحة مقابل اتصاف جمال مبارك بالطابع الرسمي كان من بين أسباب كثيرة- أهمها التوريث- أدت لعدم وجود كيمياء إنسانية بين الطرفين، حتى إذا داعبه الفقي ذات مرة وهما في زيارة رسمية لفرنسا وقال له "هل ستعود أغاني يا جمال يا مثال الوطنية، يا جمال يا حبيب الملايين كالتي كان يتغنى بها الناس لجمال عبد الناصر؟" لم يتجاوب جمال مبارك مع دعابته بل رد عليه "في تحفظ وبرود" بعد أن غيّر اتجاه الحديث!. وفي المذكرات نجد العشرات من المواقف الجادة التي استطاع الكاتب أن يُفجّر منها مزيجاً من الضحك والدهشة بعد أن تكون الرسالة قد وصلت للقارئ بالوضوح الممكن. عندما كان الرئيس مبارك بصدد تعيين أحد رؤساء الوزراء- وكان مريضاً بالقلب- طلب من الدكتور الفقي أن يسأل الطبيب المعالج عن كفاءة القلب والشرايين لمرشح المنصب الكبير فرد عليه الطبيب بأن الكفاءة خمسة وستون في المائة تقريباً، وحين علم مبارك بذلك قال "هذا عظيم إنه يمكن أن يستمر معي بضع سنوات قادمة"! يا سلام كأننا مجرد آلات لها تاريخ صلاحية في نظر صانع القرار. وعندما كان الدكتور الفقي مصاحباً للرئيس مبارك في زيارته لمقر الأمم المتحدة بنيويورك، فوجئ بأنهم أعدوا له سيارة تشبه سيارة الرئيس تماماً وتتقدمها، وهنا أخذت الأحلام الوظيفية تداعب كاتب المذكرات متصوراً أن هذه مقدمة لوضعه في إطار وظيفي أرفع، ثم علم بعد ذلك أن القصد كان أن يفتدي حياة الرئيس إذا وقع هجوم على موكبه! فعلاً؟ نموت نموت ويحيا سعد. وعندما تأخر الدكتور الفقي ذات مرة على مبارك بمسودة خطاب عيد العمال تجنبه الرئيس تماماً لمدة أسابيع ثلاثة، ثم قرر إيفاده إلى ليبيا في وقت كانت تخضع فيه ليبيا للحصار بسبب قضية لوكيربي ولا تتوفر لطائراتها قطع غيار! وذلك حتى يتعلم الدرس جيداً، ولو كانت حياته هي الثمن.
***
لا يثق كثيراً الدكتور الفقي مولود برج "العقرب" في مواصفات الأبراج الفلكية وإن كان يحمل بالفعل بعض خصال برجه وأهمها المجاملة، أما مواصفات برج "القرد" وهو البرج الصيني الذي ينتمي إليه فإنه لم يحدثنا عنها. ولا يتورع ابن الطبقة الوسطى القادم من قرية كوم النصر بمحافظة البحيرة عن حكاية نوادره مع زملائه في سنة أولى دبلوماسية وهم يتعلمون أصول الإتيكيت على يد خبير مخضرم من العهد الملكي، فمنهم من يأكل الملوخية بالخبز بعد أن يصنع منه "أذن القطة"، ومنهم من يُدخِل ملعقة الأرز في فمه حتى تكاد تصل إلى اللُوز، ومنهم من يلتهم الأكل بنهم شديد حتى ينصحه خبير البروتوكول أن يأكل في بيته قبل أي عشاء رسمي. ولا يخفي الدبلوماسي القدير أنه كان يحلم بمنصب الأمين العام لجامعة الدول العربية، ونحن نعلم أن الدبلوماسيين قلّما يفصحون عن أحلامهم ويُؤثِرون إخفاء مشاعرهم. خدمَت الدكتور الفقي الظروف مرتين، مرة بتعيينه في الخارجية بقرار من الرئيس عبد الناصر، ومرة لترقيته الاستثنائية بقرار من الرئيس مبارك، وتنبأ له العرّاف الهندي بأنه سيدخل القصر بعد شهرين فضحك وظن أن المقصود هو القصر العيني، ثم إذا به يدخل قصر الرئاسة سكرتيراً لرئيس الجمهورية للمعلومات والمتابعة!
***
إن مذكرات الدكتور مصطفى الفقي هي مذكرات إنسانية بامتياز، غنية بحكاياتها ومعلوماتها، وشديدة الغنى بمباهجها ومَسَراتها.