كنت دومًا أجد أن الحديث والكتابة عن شخصية الدكتور مصطفى الفقي مهمة صعبة وأكثر مشقة على كل كاتب أو متخصص في العلوم السياسية والقضايا الدولية أو حتى على فرق المثقفين بمختلف تنويعاتهم؛ حيث إن الرجل شديد الثراء الفكري والسياسي ويحمل له الجميع في القلوب والافئدة تقديرًا واعتزازًا ومكانة فريدة واستثانئية.
خاصة انه الموسوعى صاحب الحضور والتاريخ المتوهج دوما وبالتالى يقع الجميع فى حيرة من اين يبدأ كل من يريد الحديث او الكتابة او النقاش مع شخصية ملهمة مثل د. الفقي. خاصة عندما تمتد علاقتك مع اناس وشخصيات تحمل سمات المفكر القومى والعروبى مثله لسنوات طويلة ممتدة. ودبلوماسى عاصرته عن قرب عندما برز نجمه فى وزارة الخارجية بعد ان أنهى عمله مع مبارك فى الرئاسة وعاد من فيينا الى بيته الأثير فى الخارجية منتصف التسعينيات حيث كنت يومها مراسلا صحفيا للأهرام فى الوزارة وكنت ألتقيه بشكل شبه يومي.
واتذكر اننى كنت من الذين ألحوا عليه باستفاضة طيلة السنوات الماضية فى الإسراع بكتابة مذكراته الى ان جاءت البشرى فى شهر رمضان قبل الماضى حيث جمعنا لقاء سحور خاص بمشاركة الدكتور عبد المنعم سعيد والمرحوم الفريق محمد العصار وزير الدولة للإنتاج الحربى - بلدياته كما قال، والسفير محمد العرابي. حيث ابلغنى امام الحضور انه شرع فى كتابة المذكرات واختار لها اسم الرواية وتمنيت عليه يومها ان يذكر بإتقان وصراحة وشفافية كل ماعاصره ومر به من احداث بحلوها ومرها وان يركز على فترة عمله واقترابه من الرئيس الاسبق مبارك، حيث ان بها حكايات ومواقف يجب ان تسجل و كثيرا ماحضرت حديثه عنها فى لقاءات متعددة.
وكذلك فترة ترشحه للجامعة العربية بعد ثورة يناير وكنت قريبا من متابعة الامر معه يوما بيوم وكتبت عنه سلسلة مقالات متتالية هنا فى الاهرام فى ذلك الوقت اؤيده بقوة واطالب المجلس العسكرى آنذاك بمساندته وتوفير الغطاء العربى اللازم لترشحه. حيث كنت أرى انه الانسب والافضل والاكثر اهمية فى ذلك الوقت لهذا المنصب، وطالبته بكشف المستور وألاعيب ودسائس قطر والسودان فى تلك المعركة التى كنت شاهد عيان عليها معه آنذاك وماجرى خلف الكواليس عشية الترشيح فى اجتماع الجامعة حيث يومها قطر وقيادتها لم يقدروا مكانة وقامة د.الفقى وحضوره السياسى والدبلوماسى وتاريخه العتيد ومروحة علاقاته العربية والدولية. وكذلك مافعلته حكومة عمر البشير انسياقا وراء قطر وتعاملها بغباء منقطع النظير مع شخص د.الفقي.
وبالفعل صدرت مذكرات د.الفقى فى الاسابيع الماضية بعد ترقب طويل والتى حملت فعلا اسم الرواية - رحلة الزمان والمكان - والتى كانت بحق مختلفة وتحمل الكثير من الإبداع والسرد. وبالرغم من ان عشرات قد سابقونى فى الكتابة والحديث عن ابرع كتابات ومذكرات الفقي. الااننى فور الانتهاء من قراءتها بالكامل قررت الكتابة والتسجيل لها باعتبارها تحمل العديد من الإبداع والزوايا التى يمكن النظر منها ليس فقط لتأصيل وتاريخ حياة د. الفقى ونشأته فى إحدى قرى محافظة البحيرة وعلامات النبوغ المبكر والاجتهاد منذ الصبا التى بدت عليه وجعلته متفردا واستثنائيا منذ مراحل التعليم المختلفة والجامعة عند التحاقه بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وانضمامه الى منظمة الشباب وخطيبها الاثير والتنظيم الطليعى فى ريعان شبابه الجامعى الذى جعله مقربا ومحاطا باهتمام ولقاء قادة وكبار مصر فى ذلك الوقت. حيث اهله هذا الذكاء والتفرد وامتلاك ناصية الخطاب والقول لإصدار الرئيس عبد الناصر قرارا خاصا بتعيينه بالخارجية.
وكذلك الحال فى كل المناصب التى عمل والتحق بها سواء فى سفارات مصر فى بريطانيا والهند وغيرهما وحتى مع مبارك لاكثر من ثمانى سنوات او عبر مناصبه سفيرا فى النمسا وغيرها وغيرها وصولا الى ترؤسه إدارة مكتبة الاسكندرية حاليا. حيث تحفل المذكرات بعشرات القصص والمواقف التى عايشها وعاصرها الفقى والتى سردها بأسلوبه المميز دائما والتى سيجعلها محفورة فى اذهان وعقول كل من يقرؤها وفى تقديرى ان مذكرات الفقى لاتحمل فقط رحلة رصد لمجمل الوقائع والتجارب والمعارك لمسيرة نجاح رجل متميز كفء مبدع فى عديد ومناحى المجالات حتى مازال البعض يصفه بجبرتى العصر الحديث. بل هى نسج وتسجيل حى لذاكرة الوطن الحية على مدى اكثر من سبعين عاما منذ منتصف القرن الماضى وحتى بداية العقد الثالث للالفية الجديدة، حيث الرصد والتسجيل والتأريخ الأمين لأحداث وثورات وحروب ومعارك وتحديات حقيقية وعميقة شهدتها مصر وعاش دروبها التى كانت ومازالت تتوالى فصولا.
حيث تتمتع شخصيته بالمصداقية باعتباره دائرة معارف تمشى على الارض وبوصلة للاعتدال ورجل الحوارالوطنى والدبلوماسية الراقية المثقف الهادى والخلوق والمحاور بدماثة وذكاء. بوصفه صاحب نهج رسخ حضورا فريدا فى فن الدبلوماسية والسياسة والفكر والادب برصانة الكلمة والموقف على مدى سنوات جعله على علاقة وطيدة بمختلف البشر من دون ان يحيد عن القناعات الوطنية والسياسية التى يؤمن بها. فكل حياته كانت ومازالت حلما، يجسده رجل امطر العبر وعاش حقائق ووقائع الحياة فى مصر والمنطقة بأدق تفاصيلها وكواليس مجرياتها الخفية فكان امينا فى رصدها، وكشف الممكن منها عبر روايته التى حفلت بأجمل الهدايا الفكرية للقارئ المصرى والعربى هذا العام. خاصة من مفكر وسياسى فى حجم وقامة د.مصطفى الفقى الذى كان ومازال منسجما مع ذاته ومتسامحا مع نفسه وكل من حوله رغم شرور بعضهم وأذاهم فى بعض الاحيان. وان كانت تلك طبيعته التى تميل الى الغفران وقضاء حوائج الناس وقول الحق كما يراه وتتسق مع مواقفه التى تحمل دوما جرأة عالية فأحبه الجميع وأحاطه بالتقدير والامتنان لشخصه وتاريخه وعلمه وثقافته الموسوعية.
http://gate.ahram.org.eg/News/2608956.aspx