إن مصر هى الوريث الطبيعى لتراث عصرى النهضة الإسلامية والأوروبية، فقد جرى على أرضها تزاوج تاريخى بين ثقافتين كبيرتين، الأولى هى نتاج لتراكم حضارى فرعونى يونانى رومانى قبطي، ثم عربى إسلامي، والثانية هى غربية مسيحية عبرت إليها من بحيرة الحضارات، ونعنى بها البحر الأبيض المتوسط فأضحت مصر بحق مجمعًا تاريخيًا لحضارات مستقرة وثقافات وافدة، وفى ظنى أن (المجمع العلمى المصري) القابع على استحياء فى أحد أركان ميدان التحرير بـالقاهرة هو أيقونة عبر الزمن، ربما لم ندرك قيمتها، ولم نحسن توظيفها ولم نع جيدًا ما ترمز إليه فى تاريخنا الثقافى وتراثنا الإنسانى، فالمجمع العلمى المصرى الذى انشأه نابليون بونابرت فى أثناء الحملة الفرنسية على مصر هو خير شاهد على تطور الدولة المصرية الحديثة، التى جاءها المخاض مع طلقات مدفعية الغازى الفرنسى القادم ببوارجه الحربية، ولكنه كان يحمل أيضًا ــــ ولحسن الحظ ــــ بوادر الصحوة ودواء الإفاقة من العصور الوسطى للدخول فى عصرنا الحالي، فلقد جاءت حملة بونابرت إلى مصر حاملة بذور النهضة الغربية التى غرستها فى تربتنا الشرقية، فأنبتت دولة عصرية حديثة مهدت لوصول محمد على إلى كرسى السلطة فى سياق نعرفه جميعًا لتطور الحكم والحاكم على النحو الذى شهدناه دائمًا، ولقد كان الفيلسوف المصرى الراحل د. فؤاد زكى موفقًا توفيقًا كبيرًا عندما عقد مقارنة فى مقاله الشهير (دهاء التاريخ) بين حملة بونابرت الفرنسية على مصر، وحملة عبد الناصر المصرية على اليمن، فقد ارتدى كلاهما مسوح التحضر ورفع رايات النهضة للخروج من غياهب العصور الوسطى إلى إرهاصات العصر الحديث، إننى إذ أكتب اليوم عن المجمع العلمى المصرى فلكى أقول إننا يجب أن ننظر إليه نظرة جديدة خصوصًا بعد أن استهدفه الفوضويون بحريق إجرامى فى محاولة لطمس معالم نهضة مصر الحديثة والعدوان على كنوزه من أمهات الكتب وآلاف الوثائق ومئات الخرائط، علهم يقطعون حبال التواصل النهضوى فى أحد أهم نقاطه، وسوف تظل تلك الجريمة النكراء واحدة من أخطر وأخبث الجرائم التى احتمت فى الحركة الشعبية عبر تاريخنا الحديث! لقد أرادوا أن يطفئوا نور ذلك المجمع العريق، ولكن شاءت عناية الله وإرادة المصريين العرب الشرفاء أن يظل مضيئًا كعهده، وهنا نتذكر الأمير العربى الشيخ سلطان القاسمى حاكم الشارقة الذى كان له إسهام غير منكور فى تخفيف آثار جريمة العدوان على ذلك المجمع الخالد، ولعلى استأذن القارئ فى أن أطرح الملاحظات التالية:
أولًا: إن حفاظنا على التراث الذى نملكه لا يبدو فى كل الأحوال مبشرًا أو مشجعًا فما أكثر ما فرطنا فيه من آثار منقوشة أو وثائق مكتوبة بفعل الجهل أو الإهمال بل والتهريب أحيانًا، كما أننا لا ندرك كثيرًا القيمة الحقيقية لما بين أيدينا من كنوز فنتعامل معها أحيانًا بعبث ظاهر وتجاهل متعمد، ويكفى أن نتذكر أن السطو على آثار مصر الفرعونية ومصر الإسلامية قد جاوز حدود الاحتمال، ولعل آخرها تلك السرقات المتتالية لمنابر المساجد العريقة ومصابيح الضوء المتمثلة فى مجموعات المشكاة التى جرى خطفها من مسجد الرفاعى فى وضح النهار أو الأبواب التاريخية للمواقع القديمة والأسبلة التاريخية، ناهيك عن الإهمال الذى يزحف على تلك الآثار المحشورة فى زحام مصر الفاطمية، والتى تحول بعضها إلى محال ومقاه برغم جهود الدولة فى مواجهة ذلك، ولعلى أشيد هنا تحديدًا بما فعله وزير الثقافة الأسبق ورئيس هيئة آثارها من تجديد وصيانة لـشارع المعز الذى يبدو بغير جدال واحدًا من أهم الشوارع الأثرية فى العالم بل هو بكل المعايير متحف للزمان والمكان.
ثانيًا: إننا لا نقدر جيدًا قيمة ومكانة المجمع العلمى المصرى الذى توافدت على رئاسته كوكبة رائعة من عظماء تاريخنا الحديث ورغم جهود رئيسه الحالى وأمينه العام الدائم، وهو جغرافى مرموق، فإن المجمع لم يحتل مكانته التى يستحقها ولم يلعب دوره الذى ينتظره، وقد قيل لى إن الأمر يحتاج إلى قانون خاص يصدر عن مجلس النواب، بحيث يملك المجمع الفريد آليات للعمل التنويرى والثقافي، مستقطبًا أجيالًا جديدة من أبناء هذا الوطن، ولا شك أن ذلك يحتاج إلى تضافر جهود علماء مصر فى كل المجالات وقد تكون خبرة عالم كبير مثل إسماعيل سراج الدين إسهامًا فى تحديد ملامح مستقبل ذلك المجمع العلمى العريق.
ثالثًا: إن المجمع العلمى المصرى يرتبط فى ذاكرتى دائمًا بكتاب (وصف مصر) وهو أخطر كتاب فى تاريخنا الحديث، وقد أهدى د.بطرس بطرس غالى نسخة أصلية كاملة منه لمكتبة الإسكندرية، كما أهدى لها نسخة شبه كاملة منه د.يوسف والى أحد رواد الزراعة فى تاريخنا الحديث، وأتذكر أننى عندما توليت إدارة المعهد الدبلوماسى بوزارة الخارجية عام 1993 أن عهد لى الوزير بشئون مكتبة الوزارة وضمها إلى المعهد، وعكفت أنا وزملائى شهورًا فى تنظيمها وتنسيقها وإنقاذ المتبقى من كتبها، وقد وجدنا نسخة من كتاب (وصف مصر) وقد نزعت بعض صفحاته من قراء لا ضمير لهم أو خلق وشعرت، وقتها أن الحفاظ على التراث هو التمهيد الضرورى لصياغة المستقبل، ولعلنا تابعنا أخيرا العرض القيم لمذكرات نابليون ومراسلاته فى مصر، والتى تحدث عنها الكاتب الكبير صلاح منتصر فى محاضرته أخيرا بالمجمع.
إننا أمام كنز تاريخى وثروة فكرية وصرح شامخ ومؤسسة فريدة للتراث المصري، تحتاج إلى كل جهد صادق ونية خالصة وعزم أكيد مع خبرة متراكمة ورؤية شاملة واقتناع كامل بالدور الحضارى للكنانة المتألق دائمًا.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47594
تاريخ النشر: 28 مارس 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/585563.aspx