مازالت قضية البحث العلمى فى مصر تشغل العقول وتثير الأفكار وتطلق المحاذير، فلقد سطرت الكتابات وتعددت الرؤى ووقف الجميع أمام صنم الإمكانات المادية، ومازلت أتذكر أن زميل دراستى وصديقى الراحل د. أحمد زويل قد قال لى ذات يوم : إن الحديث عن الإمكانات المادية الباهظة للبحث العلمى أكذوبة كبري، وأنت تستطيع أن تنفق عليه مليونًا أو تنفق عليه مليارًا، ولكن فى الحالتين تتولد لديك إرادة البحث العلمى الجاد، وأضاف ـــ رحمه الله ــــ أن بعض الشباب فى الولايات المتحدة الأمريكية يتمكنون من تطوير جهاز علمى أو تعديل معادلة رياضية وهم يجلسون فى جراجات العمارات مكانًا لأبحاثهم وموقعًا لتجمعاتهم، وقال لى يومها: إن المهم هو توافر إرادة البحث العلمى خصوصًا فى المراكز المتخصصة والمعاهد والكليات التى يجرى فيها تدريس العلوم الحديثة ودراسات التكنولوجيا المعاصرة، ولقد رأيت بعينى الطلاب المتميزين فى إحدى الأكاديميات العلمية فى مصر يصنعون أجهزة دقيقة ويطورون أخري، ويقدمون إضافات حقيقية للتطور التكنولوجى والبحث العلمى فى أرقى مراحله، وعندما سألت العالم الراحل لماذا إذن نحتاج إلى الأموال لتشييد (مدينة زويل العلمية) وغيرها من المؤسسات البحثية الكبري؟ قال: إن هذه قضية أخرى لأنها تتصل بمؤسسة قومية كبرى للبحث العلمى تكون بمنزلة تجمع علمى مكثف أو قطب نمو يخترق أسوار التخلف بخطوات واسعة، ويقدم معيارًا للتفوق ورصيدًا للجودة، وكذلك مشروع كبير ينفق على ذاته بعد فترة وجيزة بل ويحقق أرباحًا طائلة للوطن، ويوفر عليه استيراد التكنولوجيا ويجعله قيمة مضافة للتقدم العلمى للإنسان المعاصر بل يصبح أيضًا الوطن من ورائه، إضافة جديدة للحضارة الانسانية ، ومازلت أتذكر عندما أنشأت مصر (المركز القومى للبحوث) فى مطلع خمسينيات القرن الماضى والذى سعدت بزيارته أكثر من مرة ووجدت الأبحاث العلمية الجادة والأساتذة الذين يعملون فى صمت والقطاعات المتفوقة فى ذلك المركز، ولقد تمنيت على د.أحمد زويل ذات يوم لو أنه بدأ بمكتب صغير فى ذلك المركز يقود ويوجه وينصح ويعلم حتى نفرغ بعد ذلك من بناء مدينته الكبري، لو أنه فعل ذلك لكان معناه أننا نقتحم المضمون ونضرب السهام فى الجوهر، ولا نقف عند حدود الشكل، ولكننا نسعى لاقتحام ميدان البحث العلمي، وأتذكر هنا تجربة أصدقائنا الهنود الذين يخترقون حواجز الشكليات ويدخلون البحث العلمى من بدايته ولو بإمكانات متواضعة حتى أصبحت الهند ـــ التى بدأت معنا فى ستينيات القرن الماضى من نقطة التقاء مشتركة لبرنامج علمى فى تصنيع الطائرات ــــ دولة نووية كبرى ودولة فضاء تطلق صواريخها بين حين وآخر، فضلًا عن التصنيع الثقيل القائم على التكنولوجيا المتقدمة، كما أن الهند أصبحت دولة اكتفاء ذاتى فى الحبوب الغذائية لمليار ومائتى مليون نسمة كما أن جارتها باكستان قد ضربت بسهم هى الأخري، فأصبحت دولة نووية تعطى للبحث العلمى اهتمامًا جديدًا، وإن كانت مشكلتها هى غياب الاستقرار السياسى وشيوع الاضطرابات من حين إلى آخر، وأنا هنا لا أظن أن مصر أشد فقرًا من الهند أو باكستان ولكن غياب عنصر الإرادة وانعدام الجدية والاكتفاء بالشعارات دون المضامين الحقيقية هى كلها أمور ضربت البحث العلمى لدينا فى مقتل وجعلتنا أسرى لقيود مصطنعة وأوهام رددناها حتى صدقناها، وأنا أتطلع اليوم إلى وزير الدولة للبحث العلمي، وهو أستاذ جامعى مرموق وصديق عزيز له رصيد ناجح فى كليته وجامعته، لذلك فإننى أهيب به أن يحرك قاطرة البحث العلمى فى الاتجاه الصحيح والمهم أن نبدأ وبأسرع وقت فلقد فاتتنا موجات كان يمكن أن نمسك بها ومحطات كدنا أن نركب قطار التقدم عندها، ولكنها الفرص الضائعة دائمًا! ولعلى أتذكر هنا مع القراء أن موجة تكنولوجيا المعلومات قد أفلتت من أيدينا، وكانت مصر مرشحة لكى تكون وسيطًا واعدًا فى هذا الميدان الذى لا يحتاج إلى أموال ولكن إلى خبرات وعقول هى متوافرة بالضرورة لدينا، ومازلت أذكر ما قاله بيل كلينتون فى أثناء زيارته فى العام التالى على مغادرته (البيت الأبيض) لقد قال عندما كان ضيفًا فى القاهرة على الأستاذ محمد شفيق جبر: إن الهنود يحققون ستة مليارات دولار سنويًا من اقتحام ميدان السوفت وير فى تكنولوجيا المعلومات المعاصرة، ولقد كان ذلك منذ ما يزيد على خمسة عشر عامًا، والأرقام الجديدة تؤكد أن الهنود يحققون فى هذ الميدان حاليًا ما يقترب من مائة مليار دولار سنويًا، وأتذكر أن كيندى قد قال يومها إنه لا يتحدث أمريكيان إلا وبينهما وسيط هندي! ألم يكن الأجدى بنا أن نكون شريكًا فاعلًا على الساحة الدولية فى هذا الميدان الواعد خصوصًا أن لدينا كل المقومات لكى نكون مركزًا عربيًا ودوليًا لتكنولوجيا المعلومات، وأنا لا أنكر هنا الجهود المبذولة حتى الآن فى هذا السياق، ولكن ذلك أقل بكثير من طموحاتنا وإمكاناتنا، ولنتذكر أن دولًا كثيرة قد أقامت سمعتها الدولية على البحث العلمى والإنتاج الصناعي، ويكفى أن نعلم أن البعض كان يشير إلى فنلندا بأنها بلد موبايل نوكيا ويشير البعض الآخر إلى أيرلندا بالطفرة الضخمة فى اقتصادها، والتى تحققت بفضل التقدم فى تكنولوجيا تصنيع الأدوية، وعلى كل دولة أن تبحث عن الميزة النسبية التى تقتحم بها مجال البحث العلمى وتتقدم على غيرها، فالتصنيع الزراعى وتكنولوجيا الهندسة الوراثية فى هذا الميدان هى ساحة مفتوحة لعلماء مصر يضربون بها عصفورين بحجر واحد هما تطوير الزراعة وتقدم الصناعة فى ذات الوقت، فضلًا عن توفير الحد الأدنى من الغذاء الشعبى لعشرات الملايين من فقراء الوطن والتهيؤ لطفرة تصديرية يمكن أن تتحقق لنا نتيجة البحث العلمى فى ميدان الزراعة، الحرفة المصرية التقليدية منذ طفولة التاريخ ... إننى أكتب هذه السطور للتحريض على التفكير فى هذه القضية الحيوية المتعلقة بمستقبل مصر وأجيالها القادمة، فالبحث العلمى ليس ترفًا، ولكنه ضرورة العصر التى لابد منها إذ إن الفارق الحضارى بين الدول يتوقف على عدد من العوامل الجديدة يتقدمها البحث العلمى دون منازع!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47601
تاريخ النشر: 4 ابريل 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/586696.aspx