لعبت الفضائيات دورًا خطيرًا في تشكيل عقل الأمة خلال العقود الأخيرة وأصبحت مصدرًا رئيسًا للآراء والأفكار والمعلومات وسمحت لغير المتخصصين بالحديث فيما لا يعلمون وشحن العقول بما يريدون، وشاركتها مؤخرًا أدوات التواصل الاجتماعي فأصبحنا أمام معزوفة جديدة لم تكن متاحة في العقود الماضية، ولقد تميزت المحطات الفضائية بقدر كبير من الإثارة مع القدرة على تحريك الرأي العام في اتجاهات مختلفة كما أصبحت منبرًا لبعض الشخصيات غير المؤهلة للحوار السياسي والتطرق إلى أمور شديدة الحساسية تتصل بعلاقات الدولة المصرية مع غيرها كما تمس بشكل مباشر أحيانًا قضايا الأمن القومي وتؤثر على المصالح العليا للبلاد، ولعل أهم الظواهر المرتبطة بالفضائيات تكمن فيما يلي:
أولًا: تتميز مصر بظاهرة فريدة وهي قوة الرأي العام وتنامي تأثيره حتى ولو لم تكن الديمقراطية في أفضل صورها، والسبب في ذلك أننا شعب ثرثار، كثير الكلام، ويبدي المواطن العادي رأيه فيما يعنيه ومالا يعنيه! وبذلك تتكون ظاهرة الرأي العام من خلال الحوارات الجانبية أو حتى الهمسات الشخصية بينما قد تكون الديمقراطية أقل سرعة في الحركة وأضعف تأثيرًا، وفي المساحة بين الرأي العام وقوته وبين الديمقراطية بتأرجحها تلعب الفضائيات دورًا يستغل ذلك الحيز في شحن الأذهان وحقن العقول بالمعلومات والأخبار بل والتحليلات والأفكار حتى أصبحت مشاهد تلك البرامح أقرب إلى برامج Talk Show منها إلى برامج التحليل السياسي أو الحوار الثقافي.
ثانيًا: لقد لاحظت ـــ كما لاحظ غيري ـــ أن كثيرًا من برامج الحوارات السياسية قد وقعت في أخطاء فتحت بابًا للجدل مع الإعلام في دول أخرى خصوصًا العربية منها، فالتعميم وإطلاق الأحكام قد يؤدي دون أن نشعر إلى المساس بكبرياء دول أخرى ومكانتها ولكن المحاور الذكي هو الذي يستطيع أن يصل إلى ما يريد دون تجريح أو تراشق أو دخول في مهاترات لا مبرر لها، ولقد لاحظنا أن الفضائيات قد صنعت أحيانًا السياسات بل وسبقت متخذ القرار من خلال التهييج والإثارة وفتح ملفات بشكل تحكمي، وربما في توقيتات غير مدروسة.
ثالثًا: هناك قضايا يجب الحذر في تناولها مثل تلك المتعلقة بالوحدة الوطنية وحريات العقائد فضلًا عن الأمور التي تمس قضايا دينية أو معتقدات روحية والحصيف الذي يدير الندوة هو القادر دائمًا على تجنب الأسلاك الشائكة دون هروب من الحقيقة أو التفاف عليها، فالمهم دائمًا هو شعور كل طرف بأن وجهة نظره مرعية وأن أفكاره مسجلة حتى لو اختلف معها الكثيرون، تطبيقًا لمقولة الإمام الشافعي (إن قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب).
رابعًا: لا يختلف اثنان على أن مساحة الحرية هي التي تفتح الطريق أمام الحوار البناء للحريات المختلفة ولكن هناك محظورًا يرد على هذا المنطق مؤداه أن الالتزام بالخط السياسي العام للدولة ضرورة مع قبول الاختلافات في التفاصيل واحترام الرأى والرأي الآخر ما دام الهدف واحدًا وهو التعبير عن إرادة الأمة من خلال الحوارات المدروسة والمناقشات البناءة والترويج للأفكار الصحيحة.
خامسًا: إن الانصراف العام عن الحوارات السياسية في الفضائيات حاليًا مع ندرة الحوارات الثقافية وتراجع الحوارات الاقتصادية إنما يلخص محنة الدور السياسي للفضائيات ويعكس إلى حد كبير الإطار العام للأزمة الراهنة خصوصًا وأن تدريس علم الصحافة التليفزيونية لم يترسخ بقوة لدى مدارس الإعلام المصري، وقد أدى ذلك إلى سقطات لكثير من المتحدثين في الفضائيات ــــ سواء كانوا محاورين أو ضيوفًا ــــ لا مبرر لها، وأنا أتذكر الآن دور الفضائيات في حربي الخليج الأولى والثانية ودور الفضائيات في إطار ثورات الربيع العربي وحتى دور الفضائيات في عالم الكرة مثلما حدث بين مصر والجزائر ذات يوم، فالمطلوب أن تكون هذه كلها عوامل مساعدة لترطيب الأجواء وتحسين العلاقات بين كافة الأطراف وليس العكس.
إننا نلحظ من النقاط السابقة أن هناك محاذير يجب التنبه لها والبعد عن الوقوع فيها ولكن الحذر لا يمنع من وقوع القدر! وكثيرًا ما كانت هناك سقطات عابرة لمحاورين يتميزون عمومًا بالكفاءة والحصافة والحكمة ولكني ألاحظ أن نسبة لا بأس بها من مقدمي البرامج خصوصًا الحديثي عهد بذلك النوع من الحوارات والذين لم يتمرسوا عليه بشكل كاف يرتكبون أخطاء من فرط الثقة أحيانًا والإحساس بالمساحة الكبيرة المتاحة والتي يتعين عليهم أن يملأوها بالحوارات والتحليلات واضعين في اعتبارهم إرضاء بعض الأطراف على حساب الحقيقة ومتجاهلين أن المواطن المعاصر لديه من الذكاء والمصادر الأخرى لنفس المعلومة ما يجعله قادرًا على المقارنة واكتشاف الحقيقة، وبهذه المناسبة فإنني لا أقوم بعملية تحريض ضد برامج التوك شو في الفضائيات ولكنني أدعو إلى ترشيدها وحسن اختيار موضوعاتها ووضعها في إطار وطني شامل يدعم القرار السياسي في الدولة ويتمتع في ذات الوقت بهامش من الاختلاف في التفاصيل على اعتبار أن الخطوط العريضة تتمتع باتفاق مجتمعي لا يختلف عليه أحد، ولعل تراجع برامج الفضائيات حاليًا هو مؤشر واضح للرغبة في ترشيدها والبعد عن توظيفها لأهداف محددة، ولعل ذلك يفسر أيضًا سر تراجع الإعلانات في معظم الفضائيات.
مرحبًا بالبرامج الهادفة والحوارات البناءة والاختلافات الموضوعية بعيدًا عن المبالغات والافتراءات وتلوين الحقائق بل والاختيار التحكمي للموضوعات لإعطائها أولوية بغير حق لدى الرأي العام الذي أصبح يستقي جزءًا كبيرًا من مصادره من خلال أدوات التواصل الاجتماعي وحوارات الفضائيات في مختلف الشئون والاهتمامات.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 16 مارس 2021.