قالوا إن الإرهاب آفة العصر، وأنا أحيل من يقولون ذلك إلى ضرورة قراءة تاريخ الحضارة العربية الإسلامية التى عرفت الخوارج والفِرَق التى اعتمدت القتل وسفك الدماء والخروج على الناموس العام للحياة فى تاريخنا الطويل لنكتشف أن ظهور مجموعات تعتمد العنف أسلوبًا فى الحياة وتخرج عن إطار الجماعة وتروج لأفكار عبثية تصل إلى حد ادعاء النبوة بل الألوهية أحيانًا ليست ظاهرة جديدة، فالإرهاب إفراز طبيعى لصراعات كامنة فى كل العصور وتعبير عن حالة التردى التى تشهدها المجتمعات المختلفة عبر تطورها نتيجة الصدام بين العقائد والصراع حول السلطة والخلاف باسم الدين، وقد يقول قائل إن جرائم الإرهاب المعاصر تبدو غير مسبوقة لأنها فاقت كل التصورات وعبرت كل الحدود وفرضت نفسها على الشعوب الآمنة والمجتمعات المستقرة وبدأت تنخر فى الجذور وتلهو بالمعتقدات وتضرب الرشد الإنسانى فى مقتل وترفع الغطاء الأخلاقى عن شراذم احترفت القتل وآمنت بترهيب الناس وتخويف البشر لأنهم يدركون أن الخوف ظاهرة بشرية توقف مسيرة الحياة فهو كالجوع سواء بسواء (أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)، ولابد أن نعترف أن الإرهاب بمظاهره الجديدة هو صناعة سياسية مع إخراج ثقافى وصياح إعلامى حتى تتوه الحقائق ويفزع الآمنون وتضطرب دورة الحياة، والإرهاب المعاصر يتلمس طريقه معتمدًا على إطار نظرى ولو مصطنع فكانت دعاوى الإسلام السياسى الذى بشر به الشيخ حسن البنا المرشد المؤسس لجماعة الإخوان المسلمين عام 1928، ولقد تضافرت عوامل كثيرة لتنسج فى رأس الشيخ ذلك التصور المتشابك لخلط الدين بالسياسة ثم الدخول فى مرحلة التنظيم الخاص بمنطق (أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)، وبدأ العنف يأخذ طريقه فى ممارسات محمومة عرفت فيها مصر مرحلة الاغتيالات السياسية وعمليات حرق المنشآت إذا لزم الأمر ثم سرت دعوة جماعة الإخوان المسلمين سريان النار فى الهشيم عربيًا وآسيويًا وإفريقيًا ورأى الكثيرون أن الإسلام السياسى مصرى المولد ولكن عضلاته عربية وآسيوية وأحيانًا إفريقية، وأضحت هناك منعطفات كبيرة فى مسيرة الإسلام السياسى فى عالمنا المعاصر وكانت أكبر تلك المحطات هى حرب أفغانستان ضد الوجود السوفيتى فى سبعينيات القرن الماضى وتجنيد عشرات الألوف من المجاهدين لنصرة الإسلام بدعم واضح من الغرب والولايات المتحدة الأمريكية تحديدًا وبعض دول الخليج وهرع إلى هناك عشرات الألوف من خريجى الجامعات فى مصر والمشرق والمغرب العربيين ينخرطون فى صفوف المجاهدين، وعندما وضعت الحرب أوزارها اتجهوا صوب بلادهم الأصلية ومنهم تشكل تنظيم القاعدة الذى تورط فى حادث برجى التجارة فى نيويورك عام 2001، كذلك كانت مدرسة البوسنة بمثابة منعطف آخر تخرجت فيها قوافل ممن كانوا يجاهدون من أجل الإسلام فأصبحوا يجاهدون ضد أبناء شعوبهم على أرض أوطانهم، وكما عرفنا تنظيم (العائدون من أفغانستان) عرفنا أيضًا تنظيم (العائدون من البوسنة) ولكن أكثر تلك المنعطفات خطورة على الإطلاق هو العناصر التى جرى الزج بها إلى الساحة السورية بدعوى نصرة المعارضة وإسقاط نظام بشار الأسد المدعوم من إيران ومن روسيا نتيجة التطلعات الإقليمية لموسكو ورغبتها فى الوجود على شاطئ المتوسط حيث المياه الدافئة وهى حلم الدب الروسى عبر القرون، ولقد انخرط فى تنظيم داعش الذى حمل زورًا وبهتانًا اسم (الدولة الإسلامية) عناصر من الجيش العراقى السابق الذى قام الأمريكيون بإلغاء وجوده بعد إسقاط نظام صدام حسين بالإضافة إلى بعض العناصر من مقاتلى الشيشان، ولكن اللافت للأمر فى تنظيم داعش أنه قد استقطب آلاف الشباب المأزومين فى العالمين العربى والإسلامى والدول الأوروبية أيضًا وقد مارس ذلك التنظيم الإرهابى أكثر الجرائم وحشية فى تاريخ الإنسان بالذبح على الهوية والحرق فى أقفاص حديدية والقتل العشوائى والإعدام بلا محاكمة فضلًا عن الجرائم التى يندى لها الجبين والتى ارتكبها ضد المسيحيين والإيزيديين وغيرهم متمثلة فى حوادث الاغتصاب والاتجار بالبشر وبيع النساء، وها هو ذلك التنظيم يطل برأسه على أرض الكنانة بحرب عصابات فى سيناء وتفجيرات دامية للكنائس بدءًا من كنيسة القديسين فى الإسكندرية مطلع 2010 وصولًا إلى تفجيرات الكنيسة البطرسية فى القاهرة وكنيسة مار جرجس فى طنطا والكنيسة المرقسية فى الإسكندرية، إنها سلسلة من الجرائم المروعة التى تستهدف فى النهاية مصر باعتبارها الجائزة الكبرى التى تطلع إليها كل الغزاة والطغاة والبغاة منذ آلاف السنين ولعلى أبدى هنا ملاحظتين:
الأولي: إن مواجهة الإرهاب الظلامى بجرائمه الاستثنائية لا تكون إلا بتدابير استباقية وإجراءات استثنائية أيضًا إذ لا يعلو على أمن الشعب وسلامة الوطن مانع أو محظور، والذين يتصورون أن إعلان حالة الطوارئ فى مثل هذه الظروف هو عدوان على الحريات أو افتئات على حقوق الإنسان هم واهمون لأننا يجب أن نرعى حقوق المواطن العادى وحرية الإنسان السوى أما من اعتمد الإرهاب طريقًا والعنف سبيلًا فلابد من مواجهته بضراوة لأنها حرب بقاء أو فناء!
الثانية: إن دحر الإرهاب على المدى الطويل يحتاج إلى تغيير جذرى فى (العقل المسلم) يتناول ثقافة الشباب وتوعيته وتعريفه بصحيح دينه وتنقية المقررات الدراسية من الآراء الانتقائية والأفكار المغلوطة بما لا يمس ثوابت الشريعة لأن الشريعة لله أما الفقه فهو من صنع البشر، وأتمنى على إمامنا الأكبر أن يسعى إلى عودة الأزهر إلى وضعه التاريخى لفصل الكليات العملية عنه لأننى أسفت كثيرًا عندما علمت أن نسبة من المتعاطفين مع التنظيمات المتطرفة أصبحوا من خريجى الأزهر الشريف بينما كنا نباهى بعكس ذلك منذ سنوات .. عاش الإسلام الحنيف، وعاشت مصر المباركة، أرض الأنبياء وملتقى العلماء وبوتقة الحضارات وأيقونة الأمم!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47615
تاريخ النشر: 18 ابريل 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/590017.aspx