التدين فطرة طبيعية للإنسان وملاذ أمام ضغوط الحياة ومظالم البشر، وأنا عندما أرى شخصًا صادق التدين ـــ مهما تكن ديانته ـــ فإننى أطمئن إليه نسبيًا وأتوقع منه أن يرعى الله وأن يخضع لضمير دينى يقظ، وقد لاحظت - على سبيل المثال - أن الرئيس المصرى الحالى يصل فى تدينه إلى حد التصوف وهو ما يعطيه ثقة فى أصعب الظروف، وأنا أشير هنا إلى طبيعة مصرية موروثة تجعل شعب الكنانة مستغرقا فى التدين على مر العصور حتى إن الديانات المصرية القديمة تؤكد ذلك وهى التى قادت (إخناتون) نحو مرفأ التوحيد وجعلت مصر معروفة بين أمم الدنيا وشعوب الأرض بأنها مستودع التدين الخالص والتعلق بالعبادات والطقوس الدينية، وعندما جاء (الإسكندر الأكبر) إلى مصر غازيًا قال له مستشاروه: إن الطريق إلى قلوب المصريين يمر بديانتهم، لذلك اتجه مباشرة إلى معبد (آمون) فى (سيوه) ليعلن نفسه ابن الإله تقربًا إلى الشعب المصري، وقد فعل (نابليون) تصرفًا شبيهًا عندما أصدر منشوره الشهير مخاطبًا الشعب المصرى قائلًا: «من نابليون عظيم الفرنساوية إلى المصريين .... إلخ» متملقًا دينهم متقربًا إلى عقيدتهم، فمفتاح مصر يقبع تاريخيًا فى جيوب رجال الدين بدءًا من كهنة المعابد إلى مسوح الرهبان وصولًا إلى أصحاب العمائم من شيوخ الإسلام، ولا يجب أخذ الأمر على إطلاقه، فالتدين شئ ومراقبة الله شىء آخر، ولقد غلب لدى المصريين شعور تاريخى يدفعهم نحو البحث عن الشكل فى المعتقد الدينى دون الوصول إلى الجوهر إذ لا يعنى زيادة حجم الدين فى حياة المصريين أنهم يمثلون بالضرورة شعب الفضيلة والأخلاق والضمير الحى إذ إن الأمر يختلف عن ذلك، فلقد تجاوز التاريخ المصرى الالتصاق بذات الله وتربية الضمير الحى انصرافًا إلى الطقوس وتجسيد الشعائر امتدادًا لفلسفة فرعونية جعلت الدين محور حضارتها وأحالت المقابر إلى أهرامات شامخة يطل منها البشر على الحياة الثانية وفقًا للمعتقد الفرعونى القديم، ولعلى أوضح ما أريد أن أصل إليه من خلال الملاحظات التالية:
أولًا: إن حجم الدين فى حياتنا كبير ولكنه حجم الطقوس والشعائر والعبادات ولا يمتد ذلك إلى القيم والأخلاق والمبادئ والمثاليات! فالمصريون الذين يتكالبون على قنصليات المملكة العربية السعودية فى القاهرة والإسكندرية والسويس وغيرها هم أنفسهم الذين يتصفون باللامبالاة ويعشقون الفهلوة ويتغنون بحب الوطن ولكنهم يقصرون فى حقه، نعم إن قوافل الشهداء من أجل مصر تملأ الأجواء عبقًا ونورًا ولكن السواد الأعظم لا يدرك قيمة مصريته ولا يدفعه دينه ـــ مسلمًا أو مسيحيًا ـــ نحو البناء والإعمار والعمل الدءوب والحرص على الارتقاء بواحد من أغلى الأوطان وأقدم الكيانات البشرية فى التاريخ، إن المصريين متدينون بإفراط ولكنهم ليسوا مؤمنين بعمق، فتلك الطوابير التى تقف أمام البعثات السعودية تطلب مئات الألوف من تأشيرات الحج والعمرة على امتداد العام تضم أيضًا أولئك الذين يكذبون ويختلسون لأن تمسكهم بشكليات الدين أكبر من شعورهم برقابة الله سبحانه وتعالى على عباده.
ثانيًا: لقد أصابنى بعض الأرق وخاصمنى النوم ذات ليلة أخيرا وبدأت أقلب فى محطات (التلفاز) فوجدت أن فيها نسبة عالية من المحطات الدينية تبدأ من قراءات سنية إلى صرخات شيعية إلى تراتيل مسيحية والكل مستغرق فى مظاهر العبادة دون الغوص فى جوهرها أو الالتزام بها، والمدهش أنك تجد وراء كل منها خلفية سياسية ودوافع ذاتية! وأنها ليست خالصة لوجه الله، وظللت أعانى ساعات الليل من متابعة ممارسات دينية لا تعبر بحق عن سلطان الله فى الأرض ولكنها محاولات لإرضاء النفوس وترطيب المشاعر، وإننى أتمنى من الله سبحانه وتعالى أن يتحول هذا التدين المصرى إلى عمل منتج من أجل الله والوطن، فمصر محتاجة الى جهد كل أبنائها وهى بحق تبحث عن جهود اقتصادية وأبحاث علمية وابتكارات يومية بديلًا لمن يتمسحون بالدين ويستخدمون النصوص المقدسة تبريرًا لأفعالهم وتحقيقًا لأطماعهم، كما أننا نحتاج إلى عامل مخلص بديلًا لناشط سياسى يملأ الدنيا صياحًا وضجيجًا ولا ينتج لوطنه زراعة أو صناعة أو سياحة أو مصدرًا لرزق الفقراء.
ثالثًا: لقد قرأت فى صدر شبابى كتابًا عن قدماء المصريين يقول: إن سيطرة فلسفة الحياة بعد الموت على مصر القديمة قد أدت إلى نتاج حضارى هائل ولكنه يتمحور حول فلسفة عميقة تبدو بعيدة عن الإيقاع اليومى للحياة لأن المصرى القديم قد شغله إلى حد كبير لغز الموت فتعلق بالحياة الثانية فبرع فى التحنيط وتفنن فى بناء المقابر وشيد الأهرامات، وأنا أزعم هنا أن الإسلام فى مصر له مذاق خاص، فقد أحال المصريون منذ العصر الفاطمى كثيرًا من طقوسه وشعائره إلى مناسبات اجتماعية ومزارات دينية حتى إننى قلت ذات يوم إننى أشعر أن الشعب المصرى سنى المذهب شيعى الهوى، فالطقوس والشكليات لدى الشيعة تتسم بالمبالغة مقارنة ببساطة أهل السنة والجماعة، كما أن الأزهر الشريف ـــ الذى ألفت النظر إلى ضرورة التوقف عن الهجوم الدائم عليه لأن فى ذلك مساسا بشخصية مصر الإسلامية فى كل الأحوال ــــ قد لعب دورًا محوريًا فى تكريس الدور الإسلامى لمصر عبر العصور.
إننى أكتب هذه السطور لوجه الله تعالى ومن أجل وطن عرف الديانات الأرضية والسماوية، وطن استقبل اليهودية واحتضن المسيحية وانخرط بعيدًا فى الإسلام الحنيف، بل لقد عرفنا الإسلام السياسى والإسلام السلفى والإسلام الصوفي، ولعلنا نلوذ بالأخير لكى يكون حصنًا ضد التطرف وملاذًا فى مواجهة الإرهاب.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47622
تاريخ النشر: 25 ابريل 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/591150.aspx