حصد وباء الكورونا أعدادًا هائلة من البشر فى أنحاء المعمورة، لكن الشىء اللافت هو أن الموتى ينسحبون من الحياة فى صمت وهدوء نتيجة مضاعفات ذلك المرض اللعين فضلًا عن أمور تتصل بدرجة المناعة لديهم وقدرة أجسادهم على مواجهة ذلك الغزو الخارجى الخبيث، ولقد لاحظت مؤخرًا أن عددًا كبيرًا ممن نعرف قد غادروا الحياة دون أن نشعر، لأنه لا توجد مآتم كما كان الأمر من قبل ولا توجد جنازات كبيرة، فضلًا عن أن الإعلان عن الرحيل فى زحام الوباء يضيع فى ضجيج البحث عن مصادر الوقاية وأسباب العلاج، كما أننا فى الغالب لا نعرف إذا كان الرحيل هو بسبب الفيروس الشرير وحده أم أن الموت قد جاء بسبب أمراض كامنة كشف عنها وساعد عليها وصول الوباء، فليس كل الموتى بالكورونا التى إذا وصلت إلى مرحلة الجهاز التنفسى أودت غالبًا بحياة صاحبها ونقلته إلى العالم الآخر، لقد فقدت شخصيًا عددًا كبيرًا من الأصدقاء ورفاق رحلة الزمان والمكان ممن انهارت قلاعهم الصحية أمام موجات الفيروس اللعين، لقد رحل مكرم محمد أحمد الكاتب الصحفى الكبير بنهاية تبدو طبيعية لا علاقة للكورونا بها، فالرجل كان يزحف نحو نهاية الثمانينيات من عمره بعد حياة حافلة فى السياسة والصحافة والثقافة، ظل طوال عمره كاتبًا شريفًا صاحب قلم شجاع وفكر مستنير وعبارة واضحة ولغة مستقيمة، ورغم أنه يكبرنى بعقد من الزمان فإن علاقتى به كانت دائمًا وثيقة وتواصلى معه دائمًا، وأتذكر عندما انتوى الترشح لمنصب نقيب الصحفيين المصريين فى مطلع تسعينيات القرن الماضى أن وزير الإعلام الراحل صفوت الشريف لم يكن متحمسًا لذلك، فأبلغنى الأستاذ مكرم حيث نقلت رسالته إلى الرئيس الراحل مبارك الذى أمر بأن يتقدم مكرم للترشيح، وبالفعل تم ذلك وانتخب نقيبًا لأكثر من دورة، وعندما قامت ثورة 25 يناير عام 2011 برز دوره كاتبًا أمينًا ومحللًا سياسيًا واعيًا حتى تم اختياره رئيسًا للهيئة العليا للاعلام التى أبلى فيها قدر ما يستطيع رغم وطأة السن ومعاناة المرض، ومازلت أتذكر فى مطلع سبعينيات القرن الماضى أن أصدر نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية اللامع إسماعيل فهمى تعميمًا على السادة الدبلوماسيين فى وزارة الخارجية بقراءة مقال عن الهجرة اليهودية إلى فلسطين لصحفى شاب اسمه مكرم محمد أحمد ومنذ ذلك الحين توجهت أنظارنا إليه وأصبحنا جميعًا من هواة قلمه الذكى وكتاباته المهمة ومواقفه الشجاعة، وأتذكر أيضًا صديقًا آخر هو الدكتور شاكر عبد الحميد وزير الثقافة المصرية الأسبق وقد كان الرجل عالمًا رصينًا ومتخصصًا فى فلسفة الجمال وله كتب تعتبر مرجعًا فى هذا السياق، وقد كان رحمه الله أستاذًا فى آداب القاهرة إلى أن طلب منه صديقنا المشترك الأديب الفنان الدكتور فوزى فهمى رئيس أكاديمية الفنون الالتحاق بالأكاديمية أستاذًا منتدبًا من منصبه فى جامعة القاهرة، وقد كان له ما أراد، حيث ازداد تألقًا وأصبحت كتاباته محل تقدير واحترام إلى أن جرى تعيينه أمينًا عامًا للمجلس الأعلى للثقافة لفترة قصيرة تولى بعدها منصب الوزارة، وقد تزاملنا فى رحلة إلى معرض الشارقة الدولى للكتاب وأتذكر أنه قد استبد به ذات مساء غرامه الشديد بالشيشة شأن كثير من الأدباء والفنانين، ولما كانت ممنوعة فى إمارة الشارقة فقد استأذن فى الذهاب إلى إمارة مجاورة تسمح بذلك وعاد بعد أن قضى ساعات مع دخانه المفضل مفكرًا وأديبًا وفيلسوفًا كان معروفًا بالتواضع والبساطة والعزوف عن الأضواء، لقد فقدت برحيله صديقًا عزيزًا وفقد الوطن شخصية مثقفة رفيعة القدر، وما أكثر من رحلوا فى الشهور الأخيرة من أصدقاء العمر ورفاق الرحلة.
فأنا ما زلت أتذكر الوزير الفريق د. محمد العصار الذى انسحب من الحياة بصورة مفاجئة، حيث لم يمهله ملاك الموت إلا أيامًا قليلة ورحل بسبب مرض طويل كان يعانيه فى صمت وصبر ودون ضجيج ولقد كان رفيق الصبا فى سنوات الدراسة بمدارس دمنهور، إننى أتذكر أيضًا الكثيرين ممن قطفت الكورونا أرواحهم أو ماتوا لأسباب أخرى ولكن لم ينتبه أحد إلى رحيلهم بسبب ظروف مواجهة الوباء والإجراءات الاحترازية التى تمنع التجمعات وتحول دون إعطاء الراحلين ما يستحقونه من وداع يليق بهم وتكريم واجب لهم، لقد ذهبوا فى غمار انتشار الكورونا وزحام الأخبار والمعلومات والآراء حول الداء اللعين والتى تدفقت على وسائل التواصل الاجتماعى وأحدثت بلبلة شديدة بدءًا من الكمامات مرورًا بالمطهرات وصولًا إلى التطعيمات، إننا نواجه - أيها السادة - عالمًا جديدًا يأتى كل يوم فيه بما لا نعلم وربما ما لم نتوقع أيضًا، ويكفى أن نتذكر أن الخيط الرفيع بين الحياة والموت قد أصبح خيطًا ضعيفًا لا يمكن التنبؤ بمن يبقى على يمينه أو من يذهب إلى يساره، كل ذلك فى ظل أجواء دولية محمومة وإقليمية ساخنة، فالمصريون على سبيل المثال تتوزع مشاعرهم المشتعلة بين مخاطر سد النهضة والعبث الإثيوبى بمياه النيل وبين مواجهتهم وباء الكورونا مثل غيرهم من شعوب الأرض، إننا نبدو وكأننا فى حرب عالمية ثالثة دون جيوش أو أسلحة، دون طائرات أو دبابات ولكنها محنة عمر وضائقة حياة وجائحة لا تذكر أجيالنا لها مثيلًا، رغم أن البشرية كانت قد عرفت الأوبئة الفتاكة التى هزمت جيوشًا وأطاحت بالملايين بدءًا من الطاعون مرورًا بالسل وصولًا إلى السرطان مع عشرات الأوبئة الأخرى والأمراض القاتلة فيما بينها، ولقد جاء فى الذكر الحكيم: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر).
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 20 ابريل 2021
https://gate.ahram.org.eg/Daily/News/804635.aspx