ليس المهم كيف يرى الإنسان نفسه، فالتاريخ البشرى يؤكد أن كل شخص يتصور أنه حالة خاصة ويتوهم دائمًا أنه قد أتى بما لم تأت به الأوائل، وانطلاقًا من ذلك يتصور دائمًا أنه متميز عن سواه، أحق من غيره بكل ما يراه متاحًا أمامه، وهى مسألة تقترب من مفهوم (الشيفونية) للأوطان ولكن على مستوى الفرد الإنسان، إننا وفقًا للثقافة العربية والميراث المصرى نستغرق فى تقديس الذات ونتغنى دائمًا بالأمجاد ونلوك تاريخنا دون توقف متوهمين أن الماضى شفيع دائم أمام الانتكاسات والكبوات والانكسارات والهزائم، ولنأخذ الدولة المصرية مثالًا فهى حالة واضحة للتباين فى وجهات النظر والاختلاف عند التقويم ولأن مصر تقف على أعمدة متعددة تحدد محصلتها شخصية ذلك البلد بتراثه وحاضره واحتمالات المستقبل أمامه فإننا نمضى وراء ملامح شخصيتنا الفرعونية ثم العربية الإسلامية مرورًا بالعصر القبطى قبل ذلك وصولًا إلى مصر الحديثة بعد ذلك كى نوجز الأمر برمته فى الملاحظات الآتية:
أولًا: إن التاريخ الفرعونى بملحقاته اليونانية والرومانية والذى يلحق به العصر القبطى قبل الفتح الإسلامى يمثل رصيدًا لا ينتهى لشخصية مصر الدولية، ومازلت أتذكر وأنا مستشار بالسفارة المصرية فى الهند أن اتصل بى سفير إحدى الدول اللاتينية المعتمدين فى نيودلهى وقال لى إن ابنه مغرم إلى حد الهوس بالتاريخ المصرى وأنه يريد أن يلتقينى لبعض الاستفسارات وجاءنى غلام لا يتعدى سن الطفولة وبدأ يناقشنى فى تتابع الأسرات الفرعونية ويحاصرنى بتساؤلات تحتاج إلى تخصص دقيق وتأكدت أن حضارة المصريين مهمة لدى شعوب الأرض ولكن المصريين آخر من يعرفون عنها رغم أن لديهم أعلامًا دولية فى هذا المجال من أمثال زاهى حواس وعلى رضوان وغيرهم من أساطين علم المصريات.
ثانيًا: إن مصر الإسلامية هى عمود فقرى للعالم الإسلامى كله، فالديانات السماوية مرت عليها فاحتضنتها بكل مظاهر الاحترام وشواهد التوقير، لقد جاء ذكرها فى العهدين القديم والجديد وأفرد لها الذكر الحكيم عدة آيات من القرآن الكريم رغم أن مصر ليست منزل الوحى ولا مهبط الرسالة إلا أنها تظل بأزهرها الشريف وأهل البيت الذين لاذوا بأرضها فى القرن الأول الهجرى وأضرحتهم لا تزال شاخصة لكل من يزور القاهرة أو بعض المواقع الإسلامية الأخرى على الخريطة المصرية، إنها مصر التى تصدر للعالم قراء القرآن الكريم وعلماء الدعوة، وعندما أراد (أوباما) الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية أن يخاطب الأمة الإسلامية كان منبره من القاهرة تقديرًا لدورها وتعزيزًا لمكانتها.
ثالثًا: إن مصر الإفريقية هى رائدة التحرير والتنوير عندما تواكب دورها مع مرحلة تصفية الاستعمار وخرج من حى (الزمالك) ذات يوم عدد من قادة حركات التحرير عائدين إلى بلادهم ليتبوأوا مناصب الحكم ومقاعد السلطة، ومازال الأفارقة يذكرون لمصر ذلك الفضل، وعندما تثور مشكلات إفريقية فإن الجميع يتطلعون إلى مصر فى لحظات ازدهارها وفترات تراجع دورها أيضًا لأنهم يعلمون أنها الدولة التى تتصرف معهم بكل نزاهة وشرف، وإذا تطلعنا للقارة الأم نجد أن الصين والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والهند وتركيا وقبلهم وفوقهم بريطانيا وفرنسا وإسرائيل قد دخلوها بينما سعى بعض الأشقاء العرب إلى إفريقيا من منافذ الخلاف بين بعض دول شرقها ومصر وكان الأولى هو أن يكون الدم العربى المشترك حاميًا من هذه المواقف وواقيًا لمدخل عربى مشترك تجاه القارة التى يسكنها ثلثا العرب.
رابعًا: إن طه حسين فى كتابه مستقبل الثقافة فى مصر ومعه أحمد لطفى السيد مترجم روائع الفكر الإغريقى بالإضافة إلى سلامة موسى وتوفيق الحكيم كانوا يبشرون جميعًا بشخصية متميزة لأكبر دولة فى جنوب المتوسط الذى هو بحيرة الحضارات، أطلت عليه الحضارة المصرية القديمة بإلهامها للحضارتين الإغريقية والرومانية وظل الإشعاع المصرى يعكس أضواءه على سطح مياه المتوسط ليؤكد دائمًا ذلك الارتباط الجغرافى والثقافى الذى لم يتوقف، وقد استعادت مصر أخيرا دورها المتوسطى بعلاقات وثيقة مع اليونان وقبرص وغيرها من دول جنوب أوروبا.
خامسًا: قال الإنجليز فى القرن التاسع عشر (إذا عطست مصر فذلك يعنى أن الشرق الأدنى قد أصابته نزلة برد) بما يعنى أن مصر هى ترمومتر المنطقة والرأى العام فيها هو التعبير الحقيقى عن المزاج السائد لذلك ظلت هى قائدة الحرب ورائدة السلام فى الصراع العربى الإسرائيلى وأزمة الشرق الأوسط.
هذه هى العمد الرئيسية للهوية المصرية نرى من خلالها كيف ينظر إلينا أصحاب كل منها، فنحن أمام العالم حضارة عريقة وفريدة، وفى العالمين العربى والإسلامى أيقونة تنفض عن نفسها غبار السنين ليعود إليها بريقها الذى لا يخبو، وهى بين دول المتوسط الرقم الذى يصعب تجاوزه أو الإقلال من دوره.. إنها مصر ذات الهوية الفريدة والشخصية المتميزة وصاحبة المواقف المشرفة والتضحيات الدائمة، إنها مستودع لما يقرب من مائة مليون عربى يعيشون على البوابة الشمالية الشرقية للقارة الإفريقية فى امتداد عضوى مع غرب آسيا وجنوب المتوسط .. هكذا يرانا الآخر إذا لم يكن فى قلبه مرض أو لديه غصة أو داء دفين من علة تاريخية هو أدرى بها!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47650
تاريخ النشر: 23 مايو 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/595433.aspx