قال البابا (فرانسيس) إنه جاء لمصر ليس زائرًا فقط ولكن كى يحج إليها! فهى أرض باركتها الديانات والتقت على أرضها الثقافات وانطلقت منها الحضارات، والذى يعنينى من عبارة الحبر الكاثوليكى الأعظم عن الحج إلى مصر هى إشارته إلى رحلة العائلة المقدسة من الناصرة فى فلسطين وصولًا إلى مغارة فى جبل بصعيد مصر، فمصر فتحت أبوابها دائمًا لمن يلوذ بها فكان السيد المسيح عليه السلام هو بحق (اللاجئ الأول) عندما جاء مع أمه التى اصطفاها الله وفضلها على نساء العالمين العذراء مريم ومعهما يوسف النجار فى رحلة صحراوية قاسية على ظهر دابة هزيلة، والذى يؤلمنى ويؤسفنى فى ذات الوقت هو أننا لم نستثمر ذلك الحدث الضخم فى تاريخ المسيحية لكى نحيل طريق هذه الرحلة المقدسة إلى مزار دينى له عائد سياحى يدفع بملايين المسيحيين إلى أرض الكنانة المضيافة يستذكرون تلك الرحلة الروحية للعائلة المباركة، وقد جرى طرح مبادرات واقتراحات ومشروعات عبر السنين لتوظيف ذلك الحدث الدينى الضخم من أجل مزيد من تأكيد مكانة مصر وخدمة دورها الروحي، فهى أرض كليم الله موسى عليه السلام وهى البلد الذى صاهره نبى الإسلام صلى الله عليه وسلم، إنها بلد مجمع الأديان التى تحترم العقائد وتقدر الرسالات، ولمن لا يعلم فإن فى القاهرة وحدها سبعة معابد يهودية صالحة للارتياد وأداء الصلوات لمن يأتيها، ولم نسمع فى ذروة الصراع العربى الإسرائيلى والحروب التى خاضتها مصر عبر العقود الأخيرة أن هجومًا قد جرى ضد واحد من هذه المعابد أو حتى مظاهرة أمامه، فالمصريون يفصلون فصلًا كاملًا بين الديانات والسياسات ويعتبرون أن مسئوليتهم الكبرى هى الدفاع عن بيوت الله مهما كان دينها، أعود إلى رحلة العائلة المقدسة فى مصر وأطرح تحديدًا الأفكار التالية:
أولًا: يجب المضى على خريطة مسار الرحلة من بدايتها إلى نهايتها وإقامة استراحات حديثة كل مائة كيلو متر مثلًا بين محطتين للراحة مع توظيف أكبر لبعض المواقع المهمة مثل (شجرة مريم) فى حى الزيتون والمغارة المباركة التى آوت إليها العائلة المقدسة.
ثانيًا: طرح برنامج دولى واسع الانتشار بالإعلام والإعلان معًا من أجل الترويج لسياحة الرحلة المقدسة على أرض مصر والتبرك بالأماكن التى سارت عليها تلك الأسرة الفلسطينية الصغيرة التى اصطفى الله منها مريم وعظم قدر (يسوع) المسيح وأضفى عليهما تبجيلًا وجلالًا يدركه الجميع.
ثالثًا: لابد من توفير الخدمات السياحية على أعلى مستوى فى مسار الرحلة كلها وإعداد نماذج للهدايا الدينية والملصقات الإعلامية والمقتنيات التاريخية المرتبطة بذلك الحدث الروحى الضخم.
رابعًا: إننى أعرف دولًا كثيرة فى العالم تستغل سياحيًا أحداثًا لا تمثل واحدًا على عشرة من رحلة العائلة المقدسة ومع ذلك فإنهم يحسنون توظيفها اقتصاديًا وإعلاميًا ويحققون منها دخولًا قومية كبيرة، فلماذا نحن دائمًا نملك الأفكار ولكننا لا نقتحم المجال بالتنفيذ الناجح والرؤية البعيدة؟! إنها مشكلة مصرية تحتاج إلى علماء فى الاجتماع وعلم النفس والدراسات السلوكية لكى يكشفوا لنا لماذا وصلنا إلى ذلك!
خامسًا: إن الذى أعطاه الله لمصر كثير وعلى أبنائها أن يحسنوا استغلاله وأن يوظفوا ما لديهم فى خدمة وطن عريق له تراث كبير، فمصر ليست الأهرامات ومعابد الأقصر وحدهما ولكنها حافلة بالمزارات الإسلامية والمسيحية واليهودية أيضًا، فليدرك العالم كله ذلك احترامًا وتقديرًا لأم الدنيا التى نطق بها أيضًا بابا الفاتيكان فى زيارته الأخيرة لمصر.
سادسًا: إن السياحة الدينية ــــ مثلما هى السياحة العلاجية ـــ نمط معروف لحركة السياحة العالمية، ومصر ينبغى أن تستأثر بنصيبها فى ذلك فهى بلد الثراء بتراثها الحضارى والديني، إنها لم تستقبل السيد المسيح فقط ولكنها استقبلت فى فجر الإسلام أهل البيت فى القرن الأول الهجرى الذين لجأوا إليها طلبًا للأمان من بطش بنى أمية وجرائم الخوارج، فكانت (المحروسة) هى الواحة التى لاذ بها كل من طلب الملاذ ووصل إلى الأرض الطيبة، ولو فكرنا فى عدد المزارات الدينية لوجدنا أنها يمكن أن تكون إضافة كبيرة للنشاط السياحى لبلادنا وسوف يكون الاهتمام بمسار العائلة المقدسة بداية تتلوها خطوات أخرى لتعزيز أنماط السياحة المتخصصة دينية وعلاجية، ثقافية وترفيهية.
سابعًا: إننى أعلم أن اجتماعات قد جرت بين مسئولين فى وزارة السياحة المصرية وأطراف أخرى معنية من أجل التمهيد للتحديد الدقيق لمسار العائلة المقدسة وكيفية استثماره روحيًا وسياحيًا فى خدمة الاقتصاد الوطنى ومكانة الدولة، ولا شك أن زيارة بابا الفاتيكان الأخيرة كانت دافعًا لتنشيط هذا المشروع وإحيائه لأنها وضعته فى دائرة الاهتمام على نحو يوحى بأنه سوف يأخذ طريقه إلى التنفيذ فى إطار المصلحة الوطنية التى يجب أن ينشدها الجميع.
إننى لا أدعو فقط إلى إحياء طريق العائلة المقدسة ولكن دعوتى أكبر من ذلك وأعم، فهى تسعى إلى توسيع دائرة الاهتمام بما هو متاح لدينا من مقومات سياحية لم نتمكن من توظيفها رغم وجودها منذ مئات السنين، وإذا كانت مصر تنقب عن وجهها الصحيح وتبنى لمستقبل أفضل فإنه يتعين علينا أن نسعى جميعًا نحو اكتشاف الميزات النسبية التى يتمتع بها هذا البلد العريق، ومصر التى كانت ملتقى الذين يصلون إليها حماية لمعتقداتهم أو يطلبون اللجوء على أرضها حماية لأفكارهم وآرائهم يجب أن تظل كما كانت بلدًا مفتوحًا لمختلف الثقافات، فتلك هى الأعمدة الراسخة للقوى الناعمة فى مصر الناهضة.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47657
تاريخ النشر: 30 مايو 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/596523.aspx