إن مصر حافلة بالشخصيات الفذة، ولكنها لا تجد من ينقب عليها أو يكتب عنها، ولن أنسى التجربة الرائعة والرائدة التى شهدتها منذ أسابيع قليلة عندما دعانى الصديق العزيز الدكتور عادل البلتاجى وزير الزراعة الأسبق والموظف الدولى الكبير الذى شغل عددًا من المواقع الهامة من قبل، لقد دعانى لزيارة (مؤسسة البناء الإنسانى والتنمية) التى تديرها السيدة الفاضلة قرينته وهى أستاذ مرموق لعلم الاجتماع فى جامعة عين شمس قطعت شوطًا طويلًا فى الأبحاث المتصلة عن الأديان والثقافات والسياسات وصدرت لها كتب فى المملكة المتحدة والهند واليابان والمغرب والولايات المتحدة الأمريكية وكندا إلى جانب عشرات المقالات الأكاديمية التى نشرت فى دوريات متخصصة، كما شاركت بعض كبار العلماء الدوليين فى مؤلفات باللغة الإنجليزية لقيت رواجًا كبيرًا واستقبلها القراء من مختلف الجنسيات بحفاوة بالغة، وأعنى بها الدكتورة علياء رضاه رافع وهى ابنة عالم جليل مزج بين الدراسات الإنسانية والجوانب الروحية وتعامل مع دينه الإسلامى بفهم عصرى وموضوعية كاملة حتى أصبح له ابن وابنتان الدكتورة علياء إحداهما ينشرون العلم ويبسطون أبعاد المعرفة من منظور جديد ربما لم أرى له مثيلًا من قبل فهم يكتبون فى الإسلاميات على سبيل المثال دون تزمت أو تشدد أو غلو وفى ذات الوقت لا يمسون ركنًا من أركان الشريعة ولا يقبلون رأيًا فقهيًا إلا بالتمحيص والمناقشة، وقد سعدت بندوة تلك الليلة الثقافية التى لم أشهد لها مثيلًا من قبل وقد حضرها صاحب الدعوة الدكتور البلتاجى الذى قدم للحوار كما قدم الحضور بعد مناقشتى لكتابها الرائع (تنزيل إلهى ومفاهيم بشرية .. آفاق بلا حدود) وهو سفر عميق المعنى رصين المبني، وقد حضر المناسبة شخصيات مرموقة منهم السيد عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية الأسبق والدكتور إسماعيل سراج الدين مدير مكتبة الإسكندرية حينذاك والدكتور فتحى صالح رائد التوثيق الثقافى والحضارى فى العقدين الأخيرين، ولقد عرضت الدكتورة علياء رضاه رافع وهى حفيدة لإمام النهضة الحديثة فى القرن التاسع عشر رفاعة رافع الطهطاوى التى قد حظيت بقسط وافر من التعليم الأجنبى والعربى والمدنى والدينى ما يجعلها بحق موسوعة متحركة تذكرنا هى وأسرتها بالشخصيات الباقية فى تاريخ الثقافة الإنسانية، وما أكثر مؤلفاتها ويكفى كتابها (رحلة فى عالم إنسان) حيث تقوم بعرض وتعليق على الكتاب الشهير لـ (كارل جوستاف يونج) عن الذكريات والأحلام والتى يتعرض فيها لسيرته الذاتية ويحيل صفحات كتابه إلى مرجع مهم فى فروع علم النفس التحليلى، فضلًا عن أنه أحد المراجع الهامة للدارسين فى الأنثروبولوجيا المعرفية خصوصًا ما اتصل منها بالوعى الديني، ولقد بهرنى فى كتابها الذى ناقشته فى تلك الليلة المثمرة فصوله الرائعة وأفكاره الجادة وأطروحاته الجريئة وموضوعيته الذكية فى التزام واعٍ حتى إننى تمنيت عليها وعلى الحاضرين أن يكون كتابها ذلك الذى أصدرته عن مؤسسة البناء الإنسانى والتنمية بمثابة مرجع يعتصم به كل من يريد أن يكتب فى علم الأديان المقارن أو يتعرض لوسطية الإسلام واعتداله خصوصًا وأنه مكتوب باستقلالية فى الرأى وحرية فى الفكر وإيمان عميق بالإسلام ذلك الدين الذى جعل التفكير فريضة على كل من يؤمن بذلك الدين الحنيف، ولا يخلو كتابها من رقة فى التعامل مع أصحاب الديانات الأخرى فهى لا تعرف التعصب، ولا تقبل العنف بل هى تؤمن بالإنسان سيد قدره ومصيره وتثبت بالأدلة العلمية والبراهين النقلية والعقلية معًا سلامة وجهة نظرها واستقامة حجتها، وقد ناقشتها أمام الحاضرين متقمصًا شخصية (محامى الشيطان) الذى يبدأ بالاعتراض ويجادل فى كل ما لا يتفق مع قناعاته، وأشهد أن تلك العالمة الفاضلة قد ردت على باقتدار وحكمة حتى إن السيد عمرو موسى قد تدخل فى الحديث وقال لها: إياك أن تتراجعى عن آرائك حتى ولو حمل عليك بعض المرجفين ممن لا يفهمون من الإسلام إلا قشورًا ولا يحترمون خيارات الآخرين، ولقد لاحظت أن البيت مبنى على طراز خاص فى أحد منتجعات منطقة الشيخ زايد حيث حرصت هى وأسرتها على أن يكون أشبه بالرَبَع فى المنازل التاريخية فضلًا عن المشربيات العربية والطراز الراقى الفريد، وقد اكتشفت أن تلك المؤسسة ذات نشاط واسع وقد ظهر لى ذلك من عدد حضور الندوة ونوعيتهم وأدركت أن هناك من يعملون فى صمت ويفكرون فى هدوء ويكتبون فى حرص ولا يبتغون إلا وجه الله والوطن، ولقد أدركت أن أباها - رحمه الله - كان شخصية رحبة ثقافة وعلمًا وأنه قد ترك أثرًا كبيرًا لدى تلاميذه ومريديه، فجاء ابنه وابنتاه امتدادًا طبيعيًا لفكره المستنير وروحه الملهمة، صدقونى لقد خرجت مبهورًا من ذلك اللقاء الذى دعيت له متحدثًا وناقدًا حول ذلك الكتاب القيم ووجدت أن الدفوع التى طرحتها المؤلفة هى أقوى بكثير من الملاحظات التى جالت بخاطرى ووجدت لديها إجابات مقنعة حول كثير من الأحداث الغامضة، وخرجت من تلك الأمسية الثرية وأنا أقول ما أكثر ما تملكين يا مصر من شخصيات فريدة ومؤسسات رائعة ولكن الإعلام المصرى مشغول بالإثارة السياسية والشحن الخاص ويقابل ذلك حالة الاستقطاب لدى كثير من الرموز المصرية، وهى كلها أمور لم نكن نسمع بها حتى عقود أخيرة، فلنطهر صفوفنا ونسعى لإيجاد حلول لكل المشكلات التى يعانى منها الوطن المصرى الذى لم يعد كسابق عهده مركز إشعاع وتنوير ولكنه أضحى محاصرًا من الحاقدين والطامعين وجحافل الإرهاب!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47671
تاريخ النشر: 13 يونيو 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/598888.aspx