يتنازعنى تياران تيار يرى أن التغنى بأمجاد الماضى والتذكير بها هو حافز للمستقبل ودافع لتزايد الثقة بالنفس خصوصًا إذا كان الأمر متصلًا بالأمم والشعوب، بينما هناك تيار آخر يرى أننا قد أسرفنا كثيرًا فى الحديث عن الماضى وأنه قد حان الوقت لنخرج من دائرة (الشيفونية) ونتوقف عن تلاوة أشعار (ديوان الحماسة) وأن ننظر إلى الواقع بدًلا من ترديد الأهازيج والانسياق وراء الماضى بما له وما عليه، ولقد توصلت أخيرا إلى قناعة بأن التيارين معًا يمكن أن يكونا تعبيرًا أمينًا عما نريده فلا التخلى عن الماضى يبدو حسنًا ولا الاستغراق فيه يعطى انطباعًا صحيحًا إذ أن تذكر الماضى هو أمر لا غبار عليه وقد يكون دافعًا إلى الأمام دون انغماس أو تهويل وأيضًا دون انصراف أو تهوين، فالأمر يتوقف على قدرتنا فى تحويل الماضى إلى طاقة إيجابية تدفع إلى الأمام خصوصًا وإذا كنا نتحدث عن وطن لديه ثراء تاريخى كبير وحضارات متعاقبة وثقافات تراكمت عبر القرون فقد نزهو بأمجاد العسكرية المصرية ولابأس من ذلك وقد نتغنى بفتوحاتنا التاريخية ولاضير من ذلك أيضًا ولكن مكمن الخطورة هو أن نستسلم للأمر وألا ندرك أن الدنيا تتغير وأن العالم يتطور وأنه لا يمكن أن تعيش أمة على رصيدها وحده أو تواجه المستقبل بأسلحة الماضى وأدواته فلكل عصر رموزه ودينامياته، والآن دعنا نطرح الملاحظات الآتية:
أولاً: لقد أسرفنا كثيرًا ـ كعرب عمومًا ومصريين خصوصًا ـ فى التغنى بأمجاد الماضى والمبالغة بالإحساس فى تأثيره على أوضاعنا الراهنة ومستقبلنا القادم ولم يكن ذلك سلوكًا مؤقتًا ولكنه تواصل عبر تاريخنا كله حتى أضحت ظاهرة يعرفها غيرنا عنا فأصبحنا نستمع إلى أحاديث من عناوينها (العرب ظاهرة صوتية) و(شيفونية المصريين الزائدة)، بينما كان الأحرى بنا والأجدى لنا أن نواجه العالم بحاضرنا وأن نفاخر بما يمكن أن نحققه من إسهامات فى حياة العصر، فالكل يحترم الماضى ويعرفه ويأتينا زائرًا للاستمتاع بزيارة أماكن لا نظير لها فى العالم أقول ذلك وأنا أعلم و(اليونسكو) تعلن أن مدينة مصرية واحدة هى (الأقصر) تملك ما لايقل عن ربع التراث الإنسانى كله فلسنا بحاجة فى أن نقول للغير من نحن لأن الآخرين يعرفون عن تاريخنا أكثر مما نعرف ويدركون من أمره أحيانًا أكثر مما ندرك ولكن الكل يريد أن يعرف كم عنوانًا أصدرت دور النشر أخيرا فى بلادنا؟ وكم بحثًا علميًا عميقًا خرج من جامعاتنا؟ (فليس الفتى من يقول كان أبى ولكن الفتى من قال ها أنا ذا) وقديمًا قال الشاعر العربي:
(كن ابن من شئت واكتسب أدبًا يغنيك محموده عن النسب).
ثانياً: هل استطعنا تحويل الماضى العريق إلى نقطة بدء ننطلق منها نحو آفاق جديدة وأبعاد مختلفة؟ لم يحدث ذلك فى ظنى فالتواصل بين الماضى والحاضر والمستقبل لا يبدو واضحًا فى حياتنا ولا فى مسار أيامنا القادمة، هل استطعنا أن نحيل هندسة بناء الأهرامات إلى مادة علمية يلتف الناس حولها ويشيدون بها؟ لم يحدث ذلك حتى استكثر علينا بعض المغرضين من الخصوم أن نكون نحن بناة تلك الحضارة العريقة ووصل القول ببعضهم أن يردد أكاذيب وافتراءات تصل إلى حد أن من بنى الأهرام وشيد حضارتها هم مخلوقات من كواكب أخرى هبطت إلى الأرض وقامت بتلك المهمة فى عصور التاريخ السحيقة بل تجاوز بعضهم وادعيّ لنفسه أن قوميته أو أتباع ديانته هم من قاموا بذلك، وهذه الأقوال الشائعة فى عصر سرقة التراث والعدوان على الآثار تبدو أمرًا معروفًا خصوصًا فى ظل حالة الاضطراب السياسى والتوتر العام، ولعله من المؤسف أن تاريخنا كله مكتوب بالتركيز على الحكام وليس على جماهير الشعب وعامة الناس بينما تشير الدراسات الحديثة إلى أن القراءة الواعية للتاريخ تقوم على تتبع تتطور الأفكار وعلاقتها بالإنسان العادي، فالتاريخ ليس حفنة من الأفراد مهما علا قدرهم وتميزت مكانتهم ولكن العبرة تكون بالعطاء التاريخى لكل جيل.
ثالثاً: دعنا نعترف بأخطائنا وتراجع قدراتنا بينما يجرى العالم من حولنا وتتسابق الأمم الجديدة والشعوب ذات التاريخ القصير لتسبقنا حتى ظهر من يقول إن الأمم القديمة والحضارات العريقة أصبحت الآن تحت وطأة شعوب لا تستحقها، فالعراقة أمر نعتز به ولا نجادل فيه ولكنها لا تكفى وحدها كى تكون تعبيرًا إيجابيًا عن تلك الدول إذ لابد أن يمضى الحاضر على إيقاع الماضى ويمتد الاثنان نحو المستقبل وإلا فسوف يكون كل حديث لنا أقرب إلى البكاء على الأطلال منه استشرافًا للمستقبل.
رابعاً: إن اشتباك الدين والحياة فى منطقتنا بل وفى (مصر) تحديدًا يجعلنا ندرك أن الحضارة الفرعونية الملهمة اعتمدت على بناء المقابر التى بلغت حد الأهرامات كما أنها آمنت بالحياة الثانية وبرعت فى التحنيط بل وتقدمت على كل ذلك وصوًلا إلى اكتشاف (التوحيد) على يد (اخناتون) سابقًا على الديانات (الإبراهيمية) الثلاث، لذلك فإن منطقة هذا شأنها وتلك هى خصائصها لابد أن تكون بالضرورة مدركة لتأثير الأديان فيها فإذا اعتبرنا أن رسالات السماء هى ثورات أخلاقية واجتماعية فإننا نكون على الطريق الصحيح أما اذا اتخذنا منها مبررًا للتواكل والاستغراق فى الخرافة والبعد عن العلم فتلك هى الخطيئة بعينها والأديان منها براء.
إننى أردت أن أقول فى السطور السابقة إنه لاتثريب علينا فى التغنى بأمجاد الماضى ولكن الإسراف فى ذلك هو جمود وخطيئة وعبث.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47685
تاريخ النشر: 27 يونيو 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/601169.aspx