يثور جدل متصل حول تأثير التطورات المعاصرة لتكنولوجيا المعلومات على مستقبل الصحافة الورقية بزعم أن الكتابة الإلكترونية قد بدأت تزحف على معظم مصادر المعرفة إلى الحد أن البعض قد بدأ يتنبأ بزوال الصحافة الورقية بعد عقود قادمة أو ربما سنوات غير بعيدة خصوصًا أن الأجيال الجديدة قد تعودت على مصادر معرفة تختلف عن تلك التى تعودت عليها أجيالنا عندما كنا ننتظر الصحيفة الورقية كمصدر له مصداقية تكاد تصل إلى حد (الوثيقة) ومن لم يتمكن من قراءة الصحيفة فى أحد الأيام لسبب أو لآخر كان يشعر أنه مستبعد عن دائرة الأخبار والمعلومات ومعزولٌ عن أحداث الداخل والخارج، أما اليوم فالشاب أو الفتاة ينكفئ على جهاز صغير يعبث فيه بأصابعه فتأتيه أخبار الدنيا طيَّعة ومباشرة ويستطيع أن يقلب فيها وأن يختار منها، لذلك فقد نعى الكثيرون الصحافة الورقية وبدأوا يستعدون لقراءة الفاتحة عليها وعلى أقطابها، ولنا هنا وجهة نظر قد نختلف فيها مع التيار العام فى هذا السياق نوجزها فى الملاحظات التالية :
أولاً: إننا نتحمس لكل جديد ونرى أن الحياة تتطور بالضرورة إلى الأمام وأن الجديد أحيانًا يلقى مقاومة شديدة من الحرس القديم ونظن أن عصر التكنولوجيا الحديثة قد أفاد البشرية واختصر أمامها أشواطاً طويلة على طريق التقدم، ولازلنا نقرأ عن تأثير اختراع الطباعة على أجيال العصر الذى ظهرت فيه وكيف كان البعض يتوهم أنها سوف تقضى على الملكات الفردية وتطيح بالخيال الرحب بل وتؤثر على الإبداع ذاته، وها نحن ندرك اليوم أن اختراع الطباعة كان نقلة نوعية فى تاريخ الأمم والحضارات بل إن الأفراد علماء ومفكرين قادرون على صياغة المستقبل والتحضير له، ولنا أن نتصور عالمنا بدون الطباعة بدءًا من صف الحروف وصوًلا إلى أرقى مستوياتها الحالية فكل جديد يلقى غالبًا تحفظًا متوقعًا خصوصًا أن الإنسان عدو ما يجهله.
ثانياً: إن ارتباط جيلى بأوراق الصحيفة وقبلها صفحات الكتب ليس أمرًا يسهل نسيانه فأنا شخصيًا مثل الملايين قد يحصلون على المعلومة السريعة من جهاز إلكترونى صغير ولكنهم يتجهون فى الوقت ذاته نحو الصحيفة الورقية بحفاوة زائدة وشغف شديد وكأن رائحة الورق ذات تأثير خاص على أجيال ارتبطت به وعاشت معه، كذلك فإن الصحيفة الورقية تبدو كالوثيقة الثابتة التى لا تختفى من أمام أعين القارئ الذى تربطه بها ألفة شديدة جعلت للورق أهميته، حتى الكتب القديمة التى أخذت صفحاتها لونها الأصفر بحكم الزمن تبدو هى الأخرى أكثر جاذبية وتأثيرًا من غيرها وكأن القارئ يتحاور مع الصفحة الورقية حوارًا ذاتيًا فى ندية وحميمية صنعها تراكم العصور والأزمنة حتى إن رائحة الورق التى يعرفها الصحفيون والناشرون وعمال المطابع مازالت تباشر تأثيرها الذى يصنع علاقة تكاد تكون عاطفية بين القارئ والصحافة الورقية، لذلك فإننى لا أظن أن الصحافة الورقية سوف تغرب تمامًا عن عالمنا، نعم .. هى تخضع لمنافسة كاسحة أمام جحافل تقدم وسائل التواصل الاجتماعى وشبكات الإنترنت وفيض المعلومات الدافق فى كل الاتجاهات، ولكنها تبقى تحت الطلب دائمًا، وإذا كانوا قد قالوا قديمًا (إن خير جليس فى الزمان كتاب) فإننا نقول إن أصدق مصدر للخبر لايزال هو الصحيفة الورقية.
ثالثاً: مازلت أتذكر أثناء دراستى للدكتوراه فى جامعة )لندن( وترددى اليومى على مكتبة (المتحف البريطاني) ومركز الوثائق الرسمى للدولة أن كان أمامى وقتها مصدران أولهما أن أقرأ المراسلات المتبادلة بين الخارجية البريطانية وسفاراتها فى الخارج خصوصاً (القاهرة) من خلال شاشة متواضعة فى جهاز يجرى تحريكه باليد وفقًا لتكنولوجيا السبعينيات التى لا تقارن بما نحن عليه، كما كان أمامى طريق آخر هو أن أطلب تصوير صفحات معينة أحددها وأدفع مقابلها الزهيد وأمسكها بيدى كى أقرأها فى الوقت الذى أريد دون تقيد بزمان أو مكان ومازالت تلك الصفحات مرجعًا أعود إليه حتى الآن.
رابعاً: إننا نلاحظ فى السنوات الأخيرة أنه رغم انتشار المواقع الإلكترونية التابعة للصحف المختلفة بل والتى حل بعضها بديًلا للصحف ذاتها، نلاحظ أن الصحافة الورقية مازالت تجاهد فى البقاء ولايبدو لها نهاية فى المنظور القريب بل إن الصحف الورقية التى توقفت لأسباب مالية ربما تتصل بسعر الورق مازالت تحتفظ بوجودها وأعداد قرائها رغم وجود كل الأدوات الإلكترونية الحديثة متاحة للجميع تقريبًا، إن الخبر قد تستقيه إلكترونيًا ولكن الرأى تفضله ورقيًا لذلك فالنهاية ليست حتمية على الإطلاق للصحافة الورقية.
خامساً: يجب ألا ننسى أن الصحافة الورقية تراث قائم ارتبط بأعلام وأسماء استقرت بذاكرة الأجيال، لذلك لا يمكن الاستغناء عنها ومحوها بأية أدوات جديدة مهما كان بريقها وشدة تأثيرها، فالإنسان هو الذى صنع الصحافة الورقية وأيضًا الإلكترونية، لذلك فإننى أزعم أن الاثنين سوف يمضيان ويحتل كل منهما نسبة من اهتمام القراء وفقًا لعوامل تتصل بطبيعة كل جيل ومقتنيات كل عصر، وستبقى الصحافتان الورقية والإلكترونية تدعمان فيض المعرفة وتدفق الخبر دون توقف أو زوال.
لا نقول وداعًا للصحافة الورقية وربما لن نقولها أبدًا فهى سجل الأحداث وديوان الحياة المعاصرة كما سمى المؤرخ الراحل (يونان لبيب رزق) صحيفة الأهرام منذ عدة عقود .. تحية للصحافة بكل أنواعها ورموزها وشخوصها ومرحبًا بالعناق بين الأجيال التى لن تفرط فى تراثها الإعلامى وأرشيفها الصحفى أبدًا.
د. مصطفى الفقى;
جريدة الأهرام العدد 47692
تاريخ النشر: 4 يوليو 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/602225.aspx