مازالت تحتفظ ذاكرتى بصورة تصدرت الصفحة الأولى فى (الأهرام) يجلس فيها الرئيس (جيمى كارتر) رئيس الولايات المتحدة الأمريكية و د.أسامة الباز وحدهما فى أثناء مفاوضات السلام بين مصر وإسرائيل عندما طلب الرئيس الأمريكى الأسبق - والذى ما زال يصارع المرض بعد سجل حافل فى قضايا صنع السلام وحقوق الإنسان والدفاع عن الديمقراطية - من الرئيس الراحل السادات والوفد المصرى أن يتركوا له أسامة الباز وحدهما ليراجع معه الصياغة النهائية لاتفاقية السلام، ولم يبلغ أسامة الباز هذه المكانة الدولية الرفيعة إلا بجهده الذاتى وشخصيته المتفردة وثقافته الواسعة، ولقد أمسك الرجل لسنوات طويلة بملفين أساسيين أولهما ملف القضية الفلسطينية والثانى ملف العلاقات المصرية الأمريكية منذ أن كان مديرًا لمكتب إسماعيل فهمى الأب الروحى لجيل كامل من الدبلوماسيين المصريين، وكانت علاقة د.الباز بالسفير عمرو موسى دائمًا ــــ علاقة ود متصل خصوصًا وأن مكانة أسامة الباز وقربه من مؤسسة الرئاسة قد وضعاه فى إطار خاص يسعى نحوه الجميع، وعندما لفت عمرو موسى انتباه الرئيس الأسبق مبارك فى أكثر من مناسبة وألزمت الظروف الصحية أسامة الباز فراش المرض لفترة وجيزة عام 1983 اصطحب الرئيس مبارك معه السيد عمرو موسى فى رحلته إلى الولايات المتحدة الأمريكية حينذاك، بينما كلفتنى سكرتارية الرئيس بإعداد خطاب افتتاح دورة مجلس الشعب وكلمة الرئيس الأسبق على العشاء عند استقباله للمستشار الألمانى الجديد وقتها (هيلمونت كول)، وقد أعجب الرئيس مبارك بالسفير عمرو موسى لجرأته وقدرته على المواجهة فوضع عينيه عليه، وأريد أن أقول هنا إن تخطى د.أسامة الباز فى منصب وزير الخارجية فى عهدى السادات ومبارك كان سببه فى رأيى رغبة كل منهما فى الاستئثار بقدرات ذلك المفاوض رفيع الشأن والدبلوماسى الكتوم بالقرب منهما حتى يكلفانه بالأعمال التى لا يقدر عليها سواه وأنهما خشيا من أن تستغرقه الواجبات اليومية والالتزامات الوظيفية إذا جرى تعيينه وزيرًا للخارجية، وأشهد أن الرئيس الأسبق كان يستشيره فى الاختيارات بما فى ذلك المرشحون لمنصب وزير الخارجية، وأظن أن الدكتور أسامة الباز قد سعد عند تعيين السفير عمرو موسى وزيرًا للخارجية ورأى فيه واحدًا من مجموعته والمقربين منه ولعل أستاذ الدبلوماسية ورفيق رحلة الباز السفير عبد الرؤوف الريدى يؤكد ذلك كما لم أر فى حياتى إنسانًا لا يضايقه تقدم الآخرين عليه حتى ولو كان بعضهم من تلاميذه مثل أسامة الباز لأن الكبار لا يعنيهم كثيرًا أن يتقدمهم سواهم إذ أن لديهم قناعة ذاتية تزرع لديهم ثقة عالية بالنفس وإيمانًا عميقًا بالقدرات الفريدة التى يحوزونها، ولقد جربت ذلك شخصيًا فى علاقتى مع د.أسامة الباز الذى أفسح لى دائمًا الطريق ولم تبدر منه إساءة لى أو لغيرى طوال حياته، إنه الرجل الذى لم يعرف صالات كبار الزوار فى المطارات وكان يمشى فى شوارع القاهرة وأسواقها وحده، وأنا أزعم صادقًا أن عمرو موسى كان يحمل له ودًا شخصيًا كبيرًا ولم أسمع منه كلمة فيها تجاوز نحوه أو تطاول عليه بل كان يحاوره ويتحدث معه وقد كان د.بطرس بطرس غالى هو الطرف الأكبر الذى يمكن الرجوع إليه فى بعض المسائل الدولية الهامة، لهذا فإننى أظن أن ما كتبه السيد عمرو موسى عن عدم ترشيح أسامة الباز لمنصب وزير الخارجية ليس اختراعًا منه بل إننى سمعت حديثًا مشابهًا من الكاتب الكبير الراحل أنيس منصور وأظن أنها كانت دردشة صالونات أكثر منها حقيقة تنسب إلى أى من الرئيسين السادات أو مبارك، والذى حدث فى العقد الأخير قبل رحيل أسامة الباز أن جيلًا جديدًا قد بدأ يصعد إلى مواقع حاكمة فى مؤسسة الرئاسة فانتقل إعداد خطب الرئيس وكلماته إليهم، كما أن أسامة الباز الذى واجه بشجاعة محنتى المرض فى حياته عندما داهمه المرض اللعين فانتصر عليه بإرادته القوية ثم أجريت له جراحة القلب المفتوح التى ذهب إليها فى هدوء وأجراها دون ضجيج فذلك هو أسامة الباز الذى امتد تاريخه منذ ثورة يوليو عام 1952 حتى ثورة يناير عام 2011، وفى السنوات الأخيرة لم يكن د.الباز مدعوًا فى كل المناسبات أو حتى أسفار الرئيس مع أن الأخير كان يحمل له تقديرًا عميقًا إذ أن د.أسامة الباز كان يعمل مع رؤساء مصر بشروطه هو فى صمت ودون إعلان، ولقد حكى لى صديقى السفير محمد العرابى وزير الخارجية الأسبق أنه كان يجلس مع الرئيس فى إحدى شرفات السفارة فى (برلين) ورأيا أسامة الباز يمضى وحده خارجًا من المبنى فقال الرئيس الأسبق مبارك فى تلقائية: لقد قدم أسامه لوطنه الكثير وأنتم جميعًا بغير استثناء تلاميذه فى كافة المواقع الدبلوماسية، خلاصة ما أريد أن أصل إليه هو أننى لا أظن أن صدامًا قد وقع بين موسى والباز وإن كانت العلاقات قد خرجت فى سنواتها الأخيرة من إطارها الدافئ المعتاد إلى درجة من البرودة المتوقعة بحكم تغيير المواقع وترتيب الأقدميات على نحو جديد، والذين يعرفون السيد عمرو موسى يدركون كفاءته العالية فى عمله كما يدركون أيضًا أنه دائمًا على المسرح ولا يقبل إلا دور البطولة وحده، تلك هى طبيعته التى تساعده فيها مقوماته الوظيفية والكاريزما الشخصية التى تمتع بها منذ سنوات شبابه إلى جانب جسارة المبادرة والقدرة على اقتحام المواقف .. رحم الله أستاذنا الراحل د.أسامة الباز وأعطى الله الصحة للسيد عمرو موسى!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47783
تاريخ النشر: 3 أكتوبر 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/616112.aspx