عندما انتهت مناقشة أطروحة الدكتوراه للطالب عبد الرحمن بدوى قال الدكتور طه حسين: إننا نشهد اليوم ميلاد فيلسوف مصرى جديد! ولو أن الأجل امتد به ليتابع مساهمات فيلسوفنا مراد وهبة لأدرك أن مصر بلد ولود يدفع بالعبقريات من حين إلى آخر، وعلى الرغم من الاختلاف الفكرى وتباين المنهج الفلسفى بين بدوى ووهبة إلا أننا نراهما أبناء مدرسة واحدة وهى (مدرسة الفلسفة المصرية) التى ضمت أيضًا توفيق الطويل، وزكى نجيب محمود، وفؤاد زكريا وغيرهم من العِقْدِ الفريد لأساتذة الفلسفة فى ساحة الوطن، وقد ربطتنى علاقة وثيقة وطيبة بالدكتور مراد وهبه منذ سنوات بعيدة فهو يبدو لى وكأنه (ابن رشد) فى عصرنا يبشر بالتنوير ويدحض الأصولية، ويرفض التطرف، ويدعو إلى حرية الفكر وسماحة العقل ونورانية الوجدان، ولقد كتبت اخيرا مقالًا بعنوان (البناء المؤسسى والإطار الفلسفي) فإذا بفيلسوفنا القدير يلتقط الخيط ويشيد بالمقال وصاحبه ويبنى عليه ويضيف إليه، ويلفت نظرنا جميعًا إلى ما لا نعلم، ويدعونا إلى تأمل ما لم نكن ندرك، وبقدر ما ذاع صيت مراد وهبه فى تخصصه الفلسفة وهى (أم العلوم) وبقدر ما أصبحت له مدرسة وصالون ثقافى وتلاميذ ومريدون تتقدمهم أ. د.منى أبو سنه أستاذة الأدب الإنجليزى بجامعة عين شمس فإنه قد تكالبت عليه فى ذات الوقت جحافل المعارضة المغرضة والتى تحاول تديين الآراء والتقاطها من سياقها لتخلق منها عقبة أمام الرجل وعقدة فى حياته مع أن د.مراد وهبه نموذج لحرية الفكر واتساع الأفق واحترام خيارات الآخر إلا أنه والحق يقال واحد من أشد المعارضين للأصولية الدينية لأنه يراها محاولة لتقسيم الكفاح الوطنى والنضال العادل من أجل الأهداف العليا لأصحابها، وهو يرى أن جزءًا كبيرًا من الضرر الذى لحق بالنضال الفلسطينى قد جاء من محاولة إقحام الأصولية الدينية على طبيعة المواجهة مع الطرف الآخر كما أن الأصولية فى جانب تستدعى الأصولية فى الجانب الآخر وتجعلنا أمام صراع دينى أو مذهبى أو عرقى محصلته سلبية على الإنسان فى كل الأحوال، وبرغم قيمة مراد وهبه الدولية والعربية والمصرية، وبرغم انفتاحه على شخصيات إسلامية بعضها من رموز الأزهر الشريف، وأخرى عروبية بعضها من العاملين فى حقل العمل القومى المشترك فإن الرجل موصوم ظلمًا بأنه منحاز لطرف فى مواجهة الآخر، وفى حقيقة الأمر أنه منحاز بالطبع - فالإنسان فى النهاية موقف وكلمة ورأى - فمراد وهبه منحاز للحريات وللتسامح الفكري، ولضرورة الاتجاه فى طريق الاستنارة لأنه وحده هو الذى يمضى مع حركة التاريخ وليس العكس، لذلك لم يحصل مراد وهبه على ما يستحق فلم نر جهة علمية - جامعة أو مؤسسة - ترشح هذا الفيلسوف الكبير لإحدى جوائز الدولة الكبرى لأن الرجل يبدو أمامهم زاهدًا لا يطلب، متعففًا لا يسعي، شامخًا فى صومعته يقرأ ويكتب ويتحدث، ينير الطريق ويعلم الأجيال، وما أكثر ما رأيته وهو يرى - باعتباره عضوًا فى المجلس الأعلى للثقافة - من يحصلون على أعلى جوائزه وهم دونه بكثير ولكن ترفعه وكبرياءه لم يجعلاه أبدًا يفكر فى شيء من ذلك حتى أفاق المجلس الأعلى للثقافة اخيرا بتوجيه من وزيرها الكاتب الصحفى المرموق والأمين العام للمجلس وهو أستاذ جامعى شاب فأصبحنا أمام احتفال المجلس بتكريم هذا الفيلسوف الكبير لنقول له: إن الجميع يذكر لك أعمالك الباقية ومسيرة حياتك المضيئة، والمذهب الفلسفى المتفتح الذى مضيت وراءه، وما أكثر لقاءاتنا بالفيلسوف المصرى الكبير فى مناسبات مختلفة، وفى كل مرة أكتشف جديدًا فى شخصيته فلديه رصانة فى التفكير، وحصافة فى التعبير، وحكمة فى الرؤي، كما لا تخلو كلماته أحيانًا من سخرية كامنة وعبارات ذات دلالة، كما أن الرجل يملك شجاعة إبداء الرأى فى كل الظروف، ولقد عقد مؤتمرات فلسفية دولية على أرض مصر استطاع بها أن يحدد إطارًا لمدرسته فى الفلسفة وأسلوبه فى التفكير مع قدرة واضحة على فهم المتغيرات الدولية والتطورات الإقليمية والتمييز دائمًا بين الدولة المدنية والدولة الدينية، ولقد فتح الرجل قنوات اتصال حتى مع المختلفين معه فى الرأى من المتحاملين على المفهوم المظلوم للعلمانية والذين يتجاهلون تأثيرها فى تحقيق الديمقراطية، وأجدنى دائمًا أقرب إلى فكره التنويرى ورؤيته للمواقف والأحداث وتحليله لها، ولقد عكف منذ عدة شهور على الكتابة فى الأهرام عن سنوات ماضية فى عد تنازلى يرصد التطور الذى جرى فى كل منها إذ إن مراد وهبه هو الأقدر على رصد تطور الأفكار فى المنطقة العربية والإسلامية بحكم وعيه العميق بالتاريخ ودراسته الواسعة فى (أم العلوم) فضلًا عن انحيازه التلقائى للعلم والتنوير والديمقراطية والعلمانية مع رفض للخرافة وقلق شديد من الفكر الأصولى وتداعياته السلبية على وحدة المجتمعات وتجانس البشر وسلام الإنسانية.
إن مراد وهبه نموذج حى للمعاناة الإنسانية الإيجابية التى تشارك ولا تبتعد، تقتحم القضايا ولا تهرب منها، تعالج المواقف فى جرأة وثقة، لذلك فإننى أدعو الدولة المصرية إلى تكريم هذا الفيلسوف الكبير الذى يمخر عباب التسعينيات من عمره المديد والذى لم يقتصر نشاطه الأكاديمى على جامعة عين شمس، ولكنه تجاوزها إلى جمعيات فلسفية تؤمن بالتفكير العلمى لدى الجامعات المصرية الأخري، أما الذين يحاربون مراد وهبه فإننى أقول لهم إنه لا كرامة لنبى فى وطنه، كما أن شاعر الحى لا يطربه! فنحن نستورد أفكارًا وننسى بضاعتنا الوطنية ذات البعد الإنسانى والعمق الأخلاقى لرجل عاش حياته فى تواضع العلماء وبساطة المفكرين وعمق الفلاسفة .. تحية للدكتور مراد وهبه فى أسبوع تكريمه مفكرًا وفيلسوفًا وإنسانًا.
د. مصطفى الفقى;
جريدة الاهرام العدد 47790
تاريخ النشر: 10 اكتوبر 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/617159.aspx