طفت على السطح فى السنوات الأخيرة قصة رحلة العائلة المقدسة فى مصر وكيفية استثمارها دينيًا وسياحيًا، ولابد أن أعترف أن رجل الأعمال (منير غبور) كان رائدًا فى هذا السياق وبذل من ماله ووقته جهدًا كبيرًا للإعداد لهذا المشروع السياحى الضخم الذى يعطى مصر مكانة فوق مكانتها ويجعلها بحق مزارًا دينيًا جاذبًا، وأنا أتذكر أننى كتبت فى هذا الأمر عدة مرات لا بحكم تخصصى فقط فى التاريخ السياسى القبطى ولكن أيضًا لأننى لاحظت أن العالم الكاثوليكى لا يقل اهتمامًا عن العالم الأرثوذكسى بهذا الشأن، ولقد كانت زيارة البابا (فرنسيس) بابا الفاتيكان لمصر عام 1917 نقطة تحول كبيرة فى شأن هذه الرحلة ومحتواها ومغزاها ولقد كتبت من قبل سعيدًا ومعتزًا بأن الحبر الكاثوليكى الأعظم قد قال إنه قد جاء إلى مصر حاجًا وليس زائرًا فقط فى إشارة إلى قداسة أرضنا الطيبة التى كلم الله فيها موسى عليه السلام ربه بطور سيناء، وعبرت على أرضها رحلة الأسرة الصغيرة التى تضم السيدة مريم وابنها المسيح ويوسف النجار هربًا من ظلم الرومان ورغبتهم فى البطش بكل من يتوسمون فيه أن يكون ملهمًا أو نبيًا داعية أو تقيًا ففتحت مصر أبوابها للأسرة القادمة من فلسطين على ظهر حمار هزيل، وقد استغرق بقاؤهم على الأرض المصرية أكثر من ثلاث سنوات فى أقل التقديرات وهم يجوبون سيناء وأرض الدلتا ثم يتجهون مع النيل إلى حيث موقع (الدير المحرق)، ولقد أسعدنى كثيرًا أن قال لى وزير السياحة السيد يحيى راشد عن الجهد الضخم الذى بذله هو شخصيًا وعاونه فيه سفيرنا القدير حاتم سيف النصر - سفير مصر فى الفاتيكان - كما أشاد الوزير بحماس ودعم السيد منير غبور وغيره من المصريين الذين طالبوا منذ سنوات بإحياء طريق الرحلة المقدسة وإعطائه أهميته الروحية والتاريخية والسياحية التى تضع مصر فى صدر خريطة العالم المعاصر، ولنا هنا ملاحظات على مسألة السياحة الدينية:
أولًا: لقد ذكر لى وزير السياحة السيد يحيى راشد أن البابا (فرنسيس) حمّله تحياته إلى كل من فضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب شيخ الأزهر والبابا تواضروس الثانى بابا الإسكندرية والكرازة المرقسية بنفس الدرجة من الاهتمام والمحبة، إذ إن بابا الفاتيكان على ما يبدو لى هو منحة إلهية للسلام العالمى والتسامح الإنسانى خصوصًا وأن البابا الذى سبقه (بيندكت السادس عشر) كان عالمًا لاهوتيًا ولكن أخطاءه السياسية كانت واضحة والكرسى البابوى فى الفاتيكان يحتاج إلى من يجمع بين الدين والدنيا.
ثانيًا: إن الحديث عن رحلة العائلة المقدسة فى دولة أغلب سكانها مسلمون هو أمر يتماشى تمامًا مع الإسلام الحنيف الذى يحض على احترام أهل الكتاب ويضع العذراء مريم فى منزلة رفيعة فقد اصطفاها الله على نساء العالمين وفقًا للذكر الحكيم فى القرآن الكريم، ولا شك أن المسلمين والمسيحيين فى مصر يعتبرون هذه الرحلة المقدسة تكريمًا لوطنهم قبل أن تكون تعبيرًا دينيًا أو مسارًا روحيًا.
ثالثًا: إن مصر مزار دينى فى كل بقاعها، فيها يرقد أهل البيت الذين لاذوا بمصر فى القرن الأول الهجري، وفيها قبور الصحابة رضوان الله عليهم، وفيها المساجد العتيقة والكنائس العريقة بل والمعابد اليهودية المصونة، وأنا أدعو إلى البحث عن قرية فى إقليم المنيا خرجت منها (مارية القبطية) زوجة نبى الإسلام محمد «صلى الله عليه وسلم» والتى أنجب منها إبراهيم وافتقده صغيرًا وحزن عليه كثيرًا إذ يمكن اعتبار تلك القرية مزارًا إسلاميًا ومسيحيًا فى ذات الوقت لزوجة مصرية لرسول الإسلام الكريم.
رابعًا: إننى وزملائى فى مكتبة الإسكندرية وبعد حوار مع السيد وزير السياحة نضع إمكانات المكتبة الفكرية والثقافية والتراثية فى خدمة مسألة تدريب المرشدين الذين يرافقون السائح الدينى إذ يجب أن يكونوا مسلمين ومسيحيين من طراز خاص يدركون سماحة الأديان ويتفهمون شخصية مصر الفريدة ولا ينسون أنها البلد الذى اكتشف التوحيد مبكرًا، وسوف يضع خبراء مكتبة الإسكندرية إمكاناتهم لخدمة هذا الهدف الوطنى النبيل وهم لا ينتظرون إلا رضاء وطن ورفاهية شعب.
خامسًا: إننا على ما يبدو نقف أمام مشروع سياحى ضخم يجب أن تحتشد له إمكانات الدولة بقدر الإمكان وأن يقف الأزهر الشريف والكنيسة الوطنية فى طليعة الدعوة لإنجاح هذا المشروع الذى يؤكد قداسة الأرض المصرية وطهارة التراب الوطنى على مر التاريخ، إنها مصر إخناتون، ومصر المعابد الفرعونية العظيمة، ومصر موسى كليم الله وأتباعه من اليهود المصريين وهى أيضًا مصر الأديرة المنتشرة حول القاهرة والإسكندرية وفى ربوع الدلتا وعلى شاطئ النهر الخالد وفى أعماق الصحراء وعلى شواطئ البحرين الأحمر والأبيض، إنها مصر التى انصهرت فيها كل المعادن الثمينة فى تاريخ الإنسانية.
إن هذه الملاحظات المتفائلة لا تتحقق إلا بتغيير العقلية السياحية والاهتمام المطلق بالخدمات والطرق بعد الاتفاق على المسار الصحيح لرحلة تلك العائلة التى كانت تحمل أول لاجئ فى التاريخ الطفل (يسوع) القادم من فلسطين إلى أرض الكنانة، فالأمنيات وحدها لا تصنع ما نريد ولا تحقق ما نشتهى ولكن لابد من إحداث نقلة نوعية فى المفاهيم السياحية المعاصرة، فإذا كانت هناك سياحة الآثار وسياحة الشواطئ وسياحة الصحراء والسياحة العلاجية إلا أننا نضيف إليها اليوم بُعدًا جديدًا يتصل بالسياحة الدينية حتى تصبح مصر مزارًا للحجيج من نصارى العالم على اختلاف مذاهبهم ليعبروا فى المسار الذى مضت عليه أسرة صغيرة تحملت عناءً لا يوصف بعبور صحراء سيناء واختراق أرض الدلتا والوصول إلى وسط الصعيد .. تحية لبابا الفاتيكان وبابا الإسكندرية ودعمًا روحيًا من الإمام الأكبر المعروف بسماحته وصوفيته ووطنيته.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47797
تاريخ النشر: 17 اكتوبر 2017
رابط المقال: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/618259.aspx