يواجه المرء فى حياته نماذج تثير مشاعره الإنسانية، وتحرك إحساس الشفقة فى أعماقه، وقد تحيل حياته إلى حزن عميق، ومن ذلك مشهدان أمتثلهما دائمًا فيما أري، وأعنى بهما الطفل المريض والعجوز الفقير، أما لماذا اخترت هذين النموذجين؟ فلأننى أدرك أن الإنسان فى حياته يمر بمراحل عمرية معينة والطفولة مرحلة حاكمة فى تشكيل الشخصية وتكوين الوجدان، والأصل فى الطفولة أن يكون الطفل مقبلًا على الحياة مستمتعًا بسنوات البراءة التى يفتقدها بعد ذلك، ولكن إذا دخلت على الطفل أزمات صحية حرمته حرية الحركة وأثقلته بما لا يدركه ووضعت قيدًا عليه يحرمه شقاوة الطفولة ولهو البراءة فإن الإنسان يشعر تجاه ذلك الطفل بالأسى الحقيقي، ولست أنسى درجة اللوعة والحزن الدفين الذى يخالطنى عندما أرى إعلانات مستشفى الأطفال فى شهر رمضان خصوصًا عندما يتحدث الطفل المريض وهو يدرك أن مستهل حياته يبدو عاصفًا، كما أن الأمل فى مستقبل طبيعى قد لا يتحقق والطفل بفطنته قد يعرف أكثر مما نتوقع، وعندما يتذكر الإنسان سنوات طفولته، وكيف كان يداخله أحيانًا نوع من الاكتئاب الغامض الذى لا يدرك أسبابه لذلك فهو يعرف درجة المعاناة التى يعيشها الأطفال المرضي، وقد لا يستطيع الطفل تفسير هذا الاختيار الإلهى الذى يوزع الأقدار على البشر وفقًا لحكمة لا نعرفها وفلسفة قد لا ندركها، ولقد عرفت أطفالًا مرضى ورأيت عذابات الحياة على وجوههم وحزنًا عميقًا يطل من عيونهم فى احتجاج صامت على قدرهم الذى لم يختاروه، وعندما ينخرط طفل مريض فى البكاء فإن أكبادنا تحترق وعندما يخضع لمشرط الجراح، فإن أفئدتنا تتمزق، لذلك فإننى أظن أن الرعاية الصحية للطفولة يجب أن تتصدر دائمًا أولوية اهتماماتنا وأن تكون مصدر اهتمام بيننا، فالطفولة السعيدة هى الطفولة السليمة بدنيًا ونفسيًا قبل أى شيء آخر، وما أكثر آلام الأطفال الذين حالت الأمراض دون انخراطهم فى التعليم الطبيعى والدراسة المنتظمة، فهم يدفعون الثمن فادحًا عدة مرات من صحتهم ومن تعليمهم ومن حقهم فى السعادة التى لم يدركوها، ويا حزنى لو جمع الله على الطفل بين المرض وضيق ذات اليد لذويه، إن المأساة فى هذه الحالة تكتمل ودائرة الحياة تبدو مغلقة، كما أن التعاطف يكون بغير حدود، وتأتى أولوية الرعاية لهذه المخلوقات الصغيرة لتتصدر اهتمامات المجتمع وشواهد الدولة، وفى المقابل وعلى الجانب الآخر فإن هناك العجوز الفقير الذى قاربت رحلة حياته على الانتهاء وهو خالى الوفاض صفر اليدين لم تجتمع له من مصادر الثروة، ولو حتى الحد الأدنى الذى يكفل له معيشة كريمة، إن هذه مأساة من نوع آخر فالطفل بدأ حياته عليلًا والعجوز ينهيها محرومًا، وهنا تأتى أولوية رعاية كبار السن وضرورة الاهتمام بأرباب المعاشات، ولا نتصور أبدًا أن فى مقدورنا أن نتجاهل تلك الحقائق التى تجعل العجوز يمد يده طلبًا للحاجة، وتعبيرًا عن العوز، إنه يشعر أن كرامته مسلوبة بعد عمر طويل، وأن رحلة الحياة لم تترك له من مدخراتها وأرصدتها ما يكفل له حد الكفاف، لقد رأيت الكثيرين من كبار السن وذوى الحاجة فى ذات الوقت، وتصورت مشاعرهم الدفينة وهم يتحسرون على رحلة لم تكن مجدية وسنوات عمر ليست لها نهاية سعيدة، ولقد قالوا ليس المهم من يضحك كثيرًا ولكن من يضحك أخيرًا فالحياة بنهاياتها، ولذلك جاء الدعاء النبوى (اللهم اجعل خير أيامنا خواتيمها) فإذا وصلنا فى نهاية السباق إلى وضع مأساوى حزين فإن ذلك يمثل ظلالًا قاتمة على حياة أصحابها، وقد تأتى الطامة الكبرى بأن يجمع الله للشيخ العجوز بين فقر الزمان وأمراض الشيخوخة فإذا به يدرك أن أمره أصعب من أن يحتوي، وأن جراحه أشد من أن تلتئم، وأن أحزانه أعمق من أن تزول، ولذلك فإن رعاية الطفولة وكبار السن هى لوازم حدية فى المجتمعات يجب أن تتجه إليها العناية والاهتمام لأنها تعنى ببساطة أن بداية الرحلة تشبه نهايتها لأنها غير سعيدة فى الحالتين فى الطفولة بالمرض وفى الشيخوخة بالفقر، إذ يبدو أن الإنسان فى الحالتين لا يكون قادرًا على تغيير الواقع بل هو مستسلم لمشيئة الله غير واع بفلسفة الحياة.
إننى لا أنكأ جراحًا ولا استجدى المشاعر، ولكننى أدعو إلى التكافل التلقائى الذى يجب أن يلعب فيه القادرون دورًا أساسيًا بالاهتمام بالفئات الأولى بالرعاية، سواء أكانت طفولة مريضة أم شيخوخة محتاجة، خصوصًا أن القانون الإلهى على ما يبدو قد أعطانا جميعًا نقاطًا محددة ثابتة العدد يجرى توزيعها وفقًا لإرادة الله ما بين مال، وصحة، ومنصب أو جاه، وقد لا ينال المرء منها شيئًا، ولكن الله يعطيه بديلًا وهو الرضا بمقتضى الحال والاستسلام المؤمن للظروف، لذلك فإننى أرى أن مواجهة المرض ومكافحة الفقر هما أمران رئيسان تتحمل مسئوليتهما الحكومات المتعاقبة فى الدول المختلفة، ولا نستطيع على الإطلاق أن نعفى أنفسنا جميعًا من حد أدنى للالتزام بهذه الأمور، دعونا نعترف أن مستشفيات الولادة والأطفال يجب أن تنال أقصى درجات الرعاية وتحصل على الأولوية فى الاهتمام، كما أن دخول كبار السن ومعاشاتهم يجب أن تكون مكفولة، وأن نهتم بدور المسنين ورعاية الكبار، ولقد ظهر تخصص طبى كبير فى الدول المتقدمة يتخصص الأطباء فيه بأمراض الشيخوخة، ومشكلات كبار السن بدنيًا ونفسيًا، خصوصًا وأن مرض الاكتئاب يفترس الشرائح العمرية الكبيرة عندما يدرك البشر أن العد التنازلى قد بدأ وأنهم يلعبون فى الوقت الضائع، وأن ما مضى لن يعود، فلتكن قلوبنا جميعًا مع الأطفال المرضى ومع الكبار المحتاجين، وبينهما شرائح عمرية متعددة هى محل الرعاية أيضًا، ولكنها أقدر على صياغة ظروفها لأن الفرصة متاحة أمامها فلا هى فى بداية الرحلة ولا فى نهاية الشوط .. هذه رسالة من ضمير صادق وفؤاد يشعر بالآخرين نقول فيها جميعًا لنعمل من أجل طفولة سعيدة ومن أجل شيخوخة هادئة.
د. مصطفى الفقى;
جريدة الاهرام العدد 47818
تاريخ النشر: 7 نوفمبر 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/621597.aspx