لا أنسى علاقتى الوثيقة بزعيم الوفد «فؤاد باشا سراج الدين»، والتى بدأت منذ الأيام الأولى لعملى فى مؤسسة الرئاسة سكرتيرًا للمعلومات والمتابعة مع الرئيس الأسبق «مبارك»، حيث بدأ التواصل بين مكتبى والأحزاب السياسية المختلفة، وفى مقدمتها حزب الوفد.
وعندما اكتشف الباشا أننى قريب مباشر للسيدة «ليلى المغازى» قرينته، وراعية شئونه، وهى حفيدة «المغازى باشا»، القطب الوفدى فى «البحيرة»، والذى كان يمتلك عشرات الآلاف من الأفدنة فى «مركز المحمودية»، وبمثابة جدِّنا الأكبر، ازدادت العلاقات بينى وبينه توثُّقًا، واطمأنَّ لوجودى فى موقعى، وكان يأتى للقاء الرئيس «مبارك» مدعوًّا فى اجتماعات قادة الأحزاب، أو مُنفردًا، وكان يصحبه دائمًا حفيده الأستاذ «فؤاد بدراوى»، وهو من قيادات الوفد أيضًا، وعضو فى البرلمان.
وفى ليلة رأس السنة، وفى بداية تسعينات القرن الماضى اتَّصلت بى الأخت العزيزة «أ.د.عواطف سراج الدين»، قرينة القطب الوفدى الكبير الراحل «ياسين سراج الدين»، وقالت لى إنها سوف تُقيم احتفال رأس السنة فى منزلهما على شاطئ «نيل الجيزة»، وإن «فؤاد باشا» قد طلب أن أكون مدعوًّا لهذا الحفل، فلبَّيتُ الدعوة، وأجلسنى الباشا إلى جواره طوال الوقت، وحدَّثنى كثيرًا عن ذكرياته، وأهدتنى ليلتها قريبتى السيدة «ليلى المغازى» مسبحةً ثمينةً.
واعتنى الباشا بضيافتى عنايةً خاصةً لا يقدر عليها رجل جاوز الثمانين، فقد كان حريصًا على إعداد ما أشربُ وما آكلُ، وعندما حدَّثته عن مضار تدخين «السيجار» فى تلك السِّن قال لى: «لقد مضى على تعاملى مع السيجار سبعون عامًا فلماذا يغدر بى الآن؟!». ولاحظتُ أن ذلك الرجل الكبير يأكل «الفواجرا» المصنوعة من «كبد الإوَزّ» بِنَهَمٍ، رغم خطورتها؛ لاحتوائها على نسبة عالية من «الكولسترول»، وتساءلتُ فى نفسى: كيف أن ذلك الرجل الذى تقدَّم به العُمر يحمل أيضًا كل العوامل المُؤثِّرة التى تتعارض مع طول العُمر؟!
فالرجل بدين إلى حدٍّ مُفرط، ومُدخِّن على مدى سبعين عامًا للسيجار، وتحمَّل من الضغوط، وعانى فى حياته السياسية ما لم يعرفه أحد، فقد اعتقله «عبدالناصر»، وحبسه «السادات»، وعاش أيام الفقر، وهو سليل أسرة ثريَّة، حتى إنه كان يستعمل قطعةً من الخشب على شكل سيجار مطليَّة باللون البُنِّى حتى يُوحى لمن يراه أنه مازال يُدخِّن السيجار، رغم أنه لم يكن يملك وقتها ما يُتيح له ذلك، بل لقد اشتغل فترةً فى تقييم العاديات (الأنتيكات) حتى يكون له دخل يعيش به فى سنوات الإقصاء والعُزلة والحصار السياسى والاجتماعى المضروب حوله.
ولعلنا نتذكَّر أن رجلاً بهذه العوامل السلبية قد عاش إلى ما فوق التسعين من عُمره؛ فالمسألة هى «الجينات»، وليست فقط عوامل مُحدَّدة فى حياة الناس، وقد ظللتُ فى تلك الأمسية الرائعة أتسامر معه حتى الساعات الأولى من الصباح، فالرجل كان يقظًا تمامًا، وفطنته زائدة، وذكاؤه حاد.
وعندما دعوته لحضور زفاف ابنتى فى الحادى عشر من يناير عام 1995 حضر متألقًا ومُنشرحًا، وفى الواحدة صباحًا وجدتُ مُرافقه يتحرَّك نحوه، فظننته قد همَّ بالخروج، فقلتُ: الحمد لله أنه قد أكرمنى بهذه الساعات التى قضاها فى زفاف ابنتى، ولكن لرقَّته الزائدة ولُطفه الشديد وجدتُه مواصلاً حضور الحفل، وأنه قام فقط للذهاب إلى دورة المياه، ثم عاد إلى مقعده، فلقد كان رجلاً رحبًا، واسعَ الأفق، شديد الذكاء، لديه دهاء إيجابى وفراسة فى تقييم الأشخاص وصبر طويل وجَلَد واضح فى مواجهة التحديات والخطوب والمصاعب.
لذلك، فإننى بعد ثورة 25 يناير 2011 وتحرُّرى من أحزاب السلطة وعودة حق الاختيار لى رأيت أن حزب الوفد -وهو حزب الوحدة الوطنية والليبرالية مع مسحة علمانية- هو أقرب الأحزاب إلى تفكيرى، خصوصًا وأنا دارس لتفاصيل تاريخه بحكم دراستى لـ«دور الأقباط فى السياسة المصرية» متمثلاً فى «مكرم عبيد باشا» سكرتير عام الحزب الذى كان موضوع أطروحتى للدكتوراه من جامعة «لندن»، وقد حصلت عليها فى أغسطس عام 1977، وعندما تقدَّمت إلى حزب الوفد أكرمتنى هيئته العليا بضمِّى إليها، بل وزادونى تكريمًا باختيارى رئيسًا شرفيًّا لذلك الحزب العريق.
أعود لـ«فؤاد باشا»، وأتذكَّر كم كان حصيفًا فى تعامله، وكان أيضًا لمَّاحًا وساخرًا عندما كان يُداعبه الرئيس الأسبق «مبارك» قائلاً: «فؤاد بك»، فكان يردُّ بـ: «إنها أوَّل مرَّة يتم تنزيل درجة الباشوية إلى الباكوية!»، ويستغرق فى الضحك ويُشاركه ذلك الرئيس الأسبق أيضًا الذى كان يحمل لزعيم الوفد تقديرًا واحترامًا، حتى إنه أضاف فى خطبه الرسمية اسم «مصطفى النحاس» ليكون من ضمن الكوكبة التى يجرى ذكرها، والتى تبدأ بـ«أحمد عرابى» و«مصطفى كامل» و«سعد زغلول»، وكانت إضافة «النحاس» فى رأيى هى أكبر تكريم حظى به حزب الوفد فى عهد الرئيس الأسبق «مبارك».
وعندما رحل «فؤاد باشا» عن عالمنا ترك فراغًا كبيرًا فى حزب الوفد، بل وفى الحياة السياسية كلها.. رحمه الله، فقد كان وطنيًّا مصريًّا، ويكفى أن نتذكَّر أنه بطل «معركة الشرطة المصرية» مع قوات الاحتلال الإنجليزى فى «الإسماعيلية» عام 1952، ويكفى أن نتذكَّر أيضًا أنه كان على علم بـ«حركة الضباط الأحرار» من خلال قريبه الضابط الكبير الذى أصبح سفيرًا فيما بعد السيد «عيسى سراج الدين»، ولكنَّ «فؤاد باشا» احتفظ بسر الضباط الأحرار، ولم يلعب دور الخيانة بإفشاء سرِّهم.. إنه رجل يقبع فى سجلِّ التاريخ الوطنى للمصريين.
د. مصطفي الفقي;
مجلة 7 أيام العدد 265
تاريخ النشر: 13 فبراير 2018
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%a3%d9%85%d8%b3%d9%8a%d8%a9-%d9%85%d8%b9-%d9%81%d8%a4%d8%a7%d8%af-%d8%a8%d8%a7%d8%b4%d8%a7/