اعتدت فى نهاية كل صيف أن أرتاد إحدى المدن الأوروبية قبل أن يحل الشتاء وفى هذا العام اقتضت ظروف رحلة علاجية لزوجتى أن أرافقها إلى مدينة (فرانكفورت) الألمانية وكانت رياح الخريف تعبر الأجواء فى تمهيد طبيعى لفصل الشتاء، وقد تفضلت القنصل العام السفيرة إيمان محرم ونائبها المستشار محمود عزت بدعوتى للقاء مفتوح مع المصريين المقيمين فى تلك المدينة يتقدمهم أصدقاء قدامى بدءًا من د.محروس خليل أستاذ المسالك الشهير وصولًا إلى عدد من الأصدقاء الذين عرفتهم عبر مسيرة الحياة، وقد تصدرت اللقاء السيدة فهيمة حرم المهندس هانى نجل (النقراشى باشا) وهى من قيادات أصدقاء مكتبة الإسكندرية فى (ألمانيا) ودار حوار طويل بينى وبين الحاضرين فى إحدى القاعات التى يجرى تأجيرها لهذه المناسبات، ورأيت فى عيون الحاضرين حبًا شديدًا للوطن وقلقًا عليه وحرصًا على مستقبله، ولابد أن أذكر هنا أن المصريين فى الخارج يكونون دائمًا أكثر ارتباطًا بالوطن وتعلقًا به ولقد عرفت ذلك منذ كنت سفيرًا لبلادى فى العاصمة النمساوية قبل أكثر من عشرين عامًا فلقد تركزت أسئلة الحاضرين حول الوطن وهمومه والشعب ومشكلاته، وقد لاحظت لديهم درجة كبيرة من الوعى مع قدر لا بأس به من المعلومات وإن كان بعضها يحتاج إلى تصحيح لابد منه، وامتد اللقاء لأكثر من ساعتين اكتشفت خلاله تلك النوعية المتميزة من المصريين فى الخارج والمعنيين بالوطن وقضاياه وآمنت أن المصرى فى الاغتراب يكون أكثر حساسية تجاه الأوضاع فى بلده وأشد اهتمامًا بشئونها، فالوطن لا يبرحنا أينما ذهبنا، ولذلك فإننى أدهش أحيانًا حين نضع قيودًا على المصريين فى الخارج ومن حصل منهم على جنسية أخرى - تيسيرًا للإجراءات وتسهيلًا للحياة - متصورين أن الجنسية هى التى تصنع الوطنية بينما الأمران مختلفان تمامًا، ولقد ركز الحاضرون فى الحوار على الأوضاع فى المنطقة واستهداف مصر من جانب التنظيمات الإرهابية فى سيناء وقرب الحدود الليبية، أيضًا فضلًا عن الجرائم الدنيئة التى ترتكب فى حق العسكريين والمدنيين فى أنحاء البلاد، وبعد أن قضيت فى العاصمة الألمانية أسبوعًا اتجهت إلى إمارة الشارقة فى دولة الإمارات تلبية لدعوة كريمة من الشيخ د.سلطان القاسمى أميرها وعضو المجلس الأعلى للاتحاد وهو عاشق لمصر يتميز بالوفاء لها والحرص عليها، ولقد فاجأنا الرجل فى خطاب الافتتاح لمعرض الكتاب السنوى وأمام حشد من جميع الجنسيات بالحديث عن مصر وحدها مهنئًا باستعادة الضابط الأسير وقدرة القوات المسلحة المصرية على ضرب أوكار الإرهاب وكان حديثه من القلب إلى القلب بل إنه بدا لنا جميعًا مفاجأة قوية بسبب عمق المشاعر ووضوح الموقف والوفاء الشديد لوطنه الثانى مصر الذى عاش فيه ودرس فى جامعاته، ثم جرى إعلان اختيار د.محمد صابر عرب - وزير الثقافة المصرية الأسبق - باعتباره شخصية العام فى المعرض السنوى للكتاب، ولقد بدأ الدكتور عرب يلقى كلمته ثم جاء حديثه عن مصر فاحتبست فى حلقه الكلمات وغلبت عليه دموعه وبدا اللقاء فى مجمله وكأنه مظاهرة فى حب مصر، ولقد دعانا د.القاسمى حاكم الشارقة د.صابر عرب وأنا إلى حوار مشترك بيننا فى ندوة عامة بحضوره شخصيًا وقد دار موضوع الحوار حول العلاقة بين الديمقراطية والثقافة وأجبنا فيه عن أسئلة الحاضرين من مختلف الجنسيات وعلق عليه حاكم الشارقة برؤية موضوعية تكشف عن ثقافته وعمق رؤيته، وما إن أنهيت مهمتى فى الشارقة إلا وأخذتنى الطائرة إلى الوطن عائدًا ومتجهًا فى اليوم التالى إلى مدينة السلام (شرم الشيخ) حيث المنتدى الدولى للشباب الذى كان بحق ودون مبالغة أو نفاق هو الأفضل بين كل المؤتمرات التى عقدناها فى السنوات الأخيرة، فقد تألق الشباب كما لم يحدث من قبل وحضر الرئيس كل جلساته تقريبًا، واستمر المؤتمر قرابة خمسة أيام من الصباح إلى المساء وحضرته شخصيات من مائة وعشر دول حيث يبدأ التمثيل فيها من رؤساء دول وحكومات ووزراء إلى شباب واعد من الأجيال الجديدة فى أوطانهم، ولقد دعيت للمشاركة فى الجلسة الأولى حول موضوع (صدام للحضارات أم تواصل!؟) مشتركًا مع الأمير الحسن ولى عهد الأردن الأسبق والأثرى المصرى د.زاهى حواس والأكاديمى الأمريكى شبل تلحمى فضلًا عن بعض الشخصيات من جنسيات أخري، ولقد عبرت فى ذلك اللقاء عن رفضى الكامل لنظرية صراع الحضارات وأوضحت أنها تتعارض كليًا مع مفهوم العولمة على الرغم من أن كليهما قد جاء من مصدر واحد وهو الفكر الغربى المعاصر، ثم أوضحت أن التعددية الإنسانية لا تعنى أبدًا أن يكون الناس مختلفين إلى حد الصدام بل إن التعايش المشترك فى الوطن المصرى عبر التاريخ هو علامة مضيئة فى هذا الشأن، وقلت أمام المؤتمر: إن فى القاهرة وحدها سبعة معابد يهودية صالحة لممارسة الشعائر، وقد صحح لى الدكتور حواس العدد قائلًا: بل هم تسعة، وهو الأدرى بالتأكيد بحكم تخصصه وترميمه عددا منها عندما كان أمينًا للمجلس الأعلى للآثار ثم وزيرًا لها، وقد تساءلت قائلًا: إن من يرد أن يعرف تحضر الشعب المصرى ورقيه فليدرك أنه لم يمس مواطن مصرى واحد أيا من هذه المعابد اليهودية حتى فى أعوام (1948 1956 1967 1973) لأننا نؤمن أن مشيئة الله هى التى أدت إلى التنوع ولو شاء لجعلنا أمة واحدة، فهو الذى قال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) صدق الله العظيم.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47832
تاريخ النشر: 21 نوفمبر 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/623893.aspx