أثارت مسألة اعتراف الرئيس الأمريكى (ترامب) بالقدس عاصمة لإسرائيل مناقشات واسعة وحوارات مستفيضة حول غياب العدالة فى العلاقات الدولية وتطبيق سياسة ازدواج المعايير والكيل بمكيالين فى التعامل على المستويين الإقليمى والدولى وتبدو القضية الفلسطينية لأصحابها قضية عادلة باعتراف معظم دول العالم، وتكفى تلك المظاهرة الضخمة فى تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وقد جاء ذلك التصويت بأغلبية كبيرة تضع الولايات المتحدة الأمريكية فى موقف حرج وتثبت أن الرئيس الأمريكى يفتقر إلى الحكمة ويفتقد القدرة على فهم ما يجرى حوله فى عالمنا المعاصر، وبقى التساؤل المطروح هل مازال الضمير الإنسانى يملك مقومات الصحوة برغم تفاوت مراكز القوى والصعود والهبوط فى بورصة العلاقات الدولية فضلا عن أن القاعدة القانونية الدولية ناقصة إذ أنها لا تستند إلى عنصر الجزاء فليس للسلم والعدل الدوليين قوة تحميهما؟ ولكن المؤثر بالفعل هو منطق القوة بكل ما تحمله من نوازع السيطرة ودوافع العدوان وشهوة النفوذ وما أكثر القضايا العادلة فى عالمنا ولكنها لا تجد من يدافع عنها أو يضعها فى إطارها الصحيح، فبرغم تسليمنا أن الضمير الإنسانى عادل بطبيعته إلا أن تفاوت موازين القوى يرجح كفة أولئك القادرين على تزييف إرادة المجتمع الدولى وتصوير الأمور على غير طبيعتها، وتبدو إسرائيل نموذجا مثاليا لذلك فقد استطاعت فى العقود الأخيرة أن تقلب الحقائق وأن تخلط الأوراق فاعتبرت الكفاح المسلح إرهابا، واعتبرت النضال من أجل استعادة الأرض عنفا غير مبرر، بل وزادت على ذلك أن مارست فيها نمطا جديدا من الإرهاب نسميه (إرهاب الدولة)، وهل هدم المنازل على أصحابها واغتيال القيادات وقتل الأطفال وترويع المدنيين إلا نماذج للممارسات التى نجحت الدولة العبرية فى فرضها مع خلق صورة سلبية عن الهوية العربية والشخصية الفلسطينية حتى أصبحنا نرى عددا من الدول الإفريقية تؤيد إسرائيل أو تمتنع عن التصويت ضدها فى الجمعية العامة عند مناقشة القرار العربى الأخير؟ كذلك نكصت بعض الدول على عقبيها وأدارت للعرب والفلسطينيين ظهر المجن، وهناك دول كانت معروفة بدعمها التقليدى للشعب الفلسطينى ولكنها تحولت إلى حد كبير حتى بلغ بها الأمر أن تلزم الصمت تجاه الجرائم المتكررة والعدوان القائم، ولكى أستوضح الأمر فإننى أطرح المحاور الثلاثة التالية:
أولا: إن تحولات ضخمة وتغييرات كبيرة قد طرأت على المجتمع الدولى فى السنوات القليلة الماضية كما امتلأ سوق الفكر المعاصر بكم هائل من الأكاذيب والافتراءات والأراجيف كما اختلط الحابل بالنابل، وسيطر حلف الأقوياء على السياسات الدولية وحلت القوة محل الحق وأصبحت العدالة فى القضايا الدولية مسألة نظرية بحتة إذ أضحت الكلمة العليا بيد أصحاب النفوذ الدولى وقبضة السيطرة فى مناطق العالم المختلفة، وقد يقول قائل وما فائدة التنظيم الدولى واللجوء إلى مؤسساته فى مواجهة الأزمات الكبرى والمشكلات المزمنة؟ والإجابة ببساطة أن استغراق الوقت قد يؤدى إلى درجة من الاقتناع المتبادل بين الأطراف المختلفة بأن حلا يلوح فى الأفق، وهنا نقف أمام نظرية الداهية (هنرى كيسنجر) المرتبطة بمفهوم (الغموض البناء) حيث يلعب عامل الزمن دورا فى التهدئة وتغيير المواقف بتراجع مطالب كل طرف إلى الحد الأدنى بعد أن يكون قد بدأها بمطالب الحد الأقصي.
ثانيا: يتوهم الكثيرون أن الجمعية العامة مجرد برلمان دولى وأن قوتها الإلزامية معدومة، وهذا قول غير دقيق بالمرة لأنها تمثل قوة ضغط وتشكل رأيا عاما دوليا يؤثر على من لا يريدون الانصياع للقرار الدولى أو الذين يعتصمون بمجلس الأمن استخداما لحق الفيتو وعندئذ تصبح الجميعة العامة مصدر قوة أدبية هائلة ذات تأثير ضخم فى مجريات الأمور ولنا فى ذلك مثالان معروفان، أولهما فى (الحرب الكورية) فى مطلع خمسينيات القرن الماضى وفى أعقاب الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة، والثانية فى (حرب السويس) بعد أن أممت مصر القناة وأصطدمت بالدول الغربية وأصبحت الجمعية العامة هى الملاذ الطبيعى لحشد القوى الدولية ضد أصحاب الفيتو فى مجلس الأمن الذى لا يعتبر بدوره أبدا نهاية المطاف ولكنه يعبر عن مرحلة كاشفة من مسار العلاقات الدولية المعاصرة، إنه مجرد حلف للمنتصرين فى الحرب العالمية الثانية ولكنه ليس تعبيرا بالضرورة عن الرأى العام الدولى السائد بل قد يتناقض معه مثلما هو الأمر فى حالة القدس ـ المدينة المتنازع عليها ـ والتى تحاول إسرائيل بدعم من حلفائها أن تكرس الأمر الواقع وأن تفرض على الفلسطينيين والعرب والمسلمين والمسيحيين حقائق على الأرض حتى ولو كانت مناقضة لمسيرة التاريخ وواقع الجغرافيا فضلًا عن المساس بالمشاعر الدينية وتحويل القضية الفلسطينية إلى قضية دينية بينما هى فى الواقع قضية سياسية، فالقدس أرض فلسطينية محتلة قبل أن تكون مدينة مقدسة.
ثالثا: إن العوار فى التنظيم الدولى المعاصر يؤكد يوما بعد يوم أن حق الفيتو الممنوح لخمس دول كبرى فى مجلس الأمن هو عنوان مغلوط للإرادة الدولية وتعطيل لها وتزييف لمحتواها، ويكفى أن نتأمل ما جرى مؤخرا حول مسألة القدس أيضا لكى نتأكد من أن صوتا واحدا لإحدى الدول الخمس دائمة العضوية ـ وهى الولايات المتحدة الأمريكية ـ قد وقف وحده فى جانب أمام الإرادة الدولية برمتها، ولعلنا نتذكر فى هذه المناسبة أن د.بطرس بطرس غالى الأمين العام الراحل للأمم المتحدة ـ قد نال وظيفته ومعه إحدى عشرة دولة مؤيدة له بينما فقد منصبه بعد فترة واحدة ومعه أربعة عشر صوتا مؤيدا له أيضا ولكن كان الصوت الخامس عشر هو الولايات المتحدة الأمريكية التى وقفت له بالمرصاد للحيلولة دون حصوله على مدة ثانية وذلك هو دورها دائما.
إن الضمير الإنسانى برغم كل ما أوردناه ـ قادر على أن يكون صاحب تأثير أقوى على المدى الطويل مهما كانت الصعوبات والتحديات والعقبات.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47874
تاريخ النشر: 2 يناير 2018
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/630716.aspx