مهما احتدم الجدل حول شخصية عبد الناصر فإنه يبقى أكثر الشخصيات تأثيرًا فى العالم العربى خلال القرن العشرين بل وأزيد على ذلك أن ذلك الزعيم الذى ملأ الدنيا وشغل الناس قد خطف بالكاريزما المتفردة التى امتلكها قلوب الملايين فغفروا له الأخطاء وعاشوا معه حتى اليوم، باعتباره القائد الذى وصل تأثيره إلى قاع القرية وحارات المدينة، ولدى تفسيران لهذه الظاهرة أولهما أن المصرى يعشق الحاكم القدوة ولا يفصل بين الانجاز وصاحبه، وأن رئيسًا للدولة يضطر لاستبدال معاشه من أجل اتمام تزويج ابنته هو نمط لا يغيب عن الذاكرة الشعبية ولا يتوارى اسمه مهما طال الزمن، وثانيهما أن حاكمًا قويًا بصلاحيات شبه مطلقة ينحاز للفقراء ويضع ملف العدالة الاجتماعية فى صدارة اهتماماته الداخلية هو حاكم لا تنساه الشعوب ولا يغيب عن ذاكرة الأمم.
وقد يقول قائل وأين رصيده السياسى من تأميم قناة السويس إلى بناء السد العالى إلى تجسيد حلم الوحدة العربية إلى غير ذلك من الانجازات السياسية الكبرى التى ارتبطت باسمه وتاريخه، وأنا أقول إن مثل هذه الأحداث الجسام مكانها فى صفحات التاريخ، ولكنها لا تعيش بالضرورة فى قلوب الجماهير، فالإنسان يتذكر ما يمسه مباشرة ولكنه لا يحلق فى أحلام الماضى وشعاراته، إننى اعترف هنا أننى ابن جيل ارتبط عاطفيًا بسنوات حكم عبد الناصر وأحلامها وحتى أوهامها، ولكننى أزعم أننى لست من اولئك الدراويش الذين يرددون الأذكار والأشعار ويرفضون أى انتقاد لعصره أو تعليق على انكساراته، وأقول لهم إن القيمة الحقيقية للزعيم ـــ أى زعيم ـــ هو أن تكون أعماله قابلة للحوار النقدى والجدل العقلي، فالعاطفة وحدها لا تبنى الدول ولا تربى الأجيال، وقد جسد عبد الناصر الكبرياء الوطنية كما لم يحدث للمصريين من قبل فى العصر الحديث على الأقل! لقد كان (عرابي) تعبيرًا عن روح الفلاح المصرى وتجسيدًا للضابط الذى يقف فى ميدان عابدين أمام الخديوى معبرًا عن المشاعر الحقيقية له ولزملائه ولكن إجهاض الثورة العرابية واقتران ذلك ببدء الاحتلال البريطانى مع السنوات الطويلة التى قضاها عرابى فى المنفى كل ذلك جعل صورته تبدو باهتة لدى كثير من معاصريه حتى هجاه أمير الشعراء بقصيدته الشهيرة عندما عاد من (سرنديب) أما (سعد زغلول) فإن بعض الهنات فى تاريخه الشخصى قد سلبت منه بعض ما يستحق، فضلًا عن أنه كان زعيمًا حزبيًا وليس حاكمًا مطلقًا وقد ظل ذلك الرجل فى ضمير الناس حتى ثورة يوليو التى وقعت فى خطيئة رفض ما قبلها وتحريك الآله الإعلامية الضخمة التى امتلكتها والمنظومة الفنية التى واكبتها باعتبار كل ما كان قبل 1952 فسادًا وأخطاءً بينما تحفل تلك الفترة خصوصًا ما بين ثورتى 1919-1952بعدد من مظاهر الدولة الحديثة التى كانت تبشر بإمكانية الإصلاح وتعزيز مسيرة الديمقراطية، وسوف يتاح لنا فى العام القادم أن نحتفل بمئوية ثورة 1919 لنضعها فى سياقها التاريخى الصحيح ومكانتها اللائقة مجسدين ارتباطها بمؤشرات ثلاثة هى بوادر العلمانية ومظاهر الليبرالية مع تأكيد شعارات الوحدة الوطنية، بل كاد سعد زغلول أن يتمكن من ترسيخ شعار (مصر للمصريين) والقفز به للحديث عن (الأمة المصرية) فى وقت لم تكن فيه العروبة السياسية قد ترسخت فى الوجدان المصرى والتى يرجع الفضل فى غرسها إلى الزعيم جمال عبد الناصر الذى نحتفل بمئويته، و قد استقر رأينا ـــ زملائى وأنا ـــ فى مكتبة الإسكندرية على أن نجعل يوم السادس والعشرين من يوليو هذا العام هو قمة احتفالنا بمئوية قادة ثورة 1952 فقد ولد عبد الناصر فى الخامس عشر من يناير عام 1918 وارتبط ميلاد خليفته أنور السادات بيوم الخامس والعشرين من ديسمبر فى نفس العام ولذلك فإن عام 2018 هو عام قادة ثورة يوليو بامتياز كما أن يوم السادس والعشرين من ذلك الشهر هو العيد القومى للإسكندرية الذى تشرف المكتبة بحمل اسمها ، ودعنى الآن أسجل هنا ملاحظتين:
أولًا: إننا نريد أن يدرك الشباب المصرى أن زعماءه لم يكن من بينهم خائن واحد إلا الخديوى محمد توفيق الذى فتح الأبواب للاحتلال البريطانى إذ أن أخطاء كل الحكام الآخرين تنبع من سوء التقدير وليس من سوء النية، فالوطنية المصرية سيطرت على كل أبناء من جلس على المقعد بما فى ذلك معظم أبناء أسرة محمد على ، ويكفى أن نتذكر أن الفاروق آخر ملوكهم كان يكره الانجليز حتى النخاع، كما أن حادث 4 فبراير 1942 قد أسهم فى تأكيد ذلك الشعور لديه رغم اعترافنا بفساده وسوء إدارته.
ثانيًا: إن الحماس لثورة يوليو لا يكون بالضرورة بحمله على العصر الملكى ففيه إنجازات لا يجب إغفالها بل يتحتم ذكرها، كما أن الحماس للزعيم العظيم عبد الناصر لا يكون بالضرورة مرتبطًا بحمله على الرئيس الحكيم أنور السادات الذى كان هو الآخر رجل دولة من طراز رفيع برغم بعض الملاحظات على سنوات حكمه، فأنا أريد أن أقول لأبنائنا وبناتنا إن التاريخ المصرى الحديث وحدة متكاملة لا تتجزأ ولا يجب الحماس لبعض فتراته على حساب فترات أخري، فالموضوعية والتجرد والحياد الوطنى هى المعايير اللازمة للحكم على كل من تبوأ مقعد السلطة فى مصر.
وبهذه المناسبة فإننى أسجل أن (مبارك) كان حاكمًا وطنيًا بعد أن كان ضابطًا طيارًا جسورًا له تاريخ عسكرى مشرف، وإن كان ذلك لا يمنع من تسليمنا بوجود مظاهر الفساد المالى والإدارى مع الاستسلام للقبضة البوليسية فى سنوات حكمه الأخيرة، لذلك فإن محكمة التاريخ قد تنصف البعض وقد تقسو على البعض الآخر فللتاريخ دهاء من نوع خاص لا يرحم مهما طال الزمن!
تحية لعبد الناصر الزعيم الذى عشقته الجماهير ورفعت صوره فى كل مناسبة لنأخذ من مئوية ميلاده دافعًا نحو تنقية تاريخنا وإعادة قراءة أحداثه وتمحيص وقائعه.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47881
تاريخ النشر: 9 يناير 2018
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/631832.aspx