يملكُ كلٌّ مِنَّا مجموعةً من المفاتيح يختصُّ بعضها بالمنزل والآخر بالمكتب والثَّالث بالسَّيارة، وتحسُن دائمًا عملية توزيعها بدلاً من تجميعها، ولكننى كنتُ أفضِّل أن أضعها جميعًا فى سلسلةٍ واحدةٍ لتسهيل الحصول على ما أريده منها فى أقصر وقت، ومازلتُ أتذكَّر جيدًا ما جرى لى عام 1974 فى لندن، حيث اكتشفتُ ذات صباح اختفاء كلِّ المفاتيح التى كانت فى سلسلة فضيَّة واحدة بعد أن فرغتُ من استخدام بعضها، عندئذٍ بدأت أضطرب بشِدَّة؛ لأننى أعلم أن عواقب فقدان هذه المفاتيح ستدخلنى فى مجموعة إجراءات مُعقَّدة لاستخراج بدائل لها، وقد يحتاج بعضها إلى وقتٍ طويلٍ لاستعادته، خصوصًا أن بعض تلك المفاتيح كانت من النوع المُتقدم نسبيًّا الذى يحتاج استخراجه إلى أرقام مُعيَّنة، كذلك فإن مفتاح السَّيارة الفولكس الألمانيَّة لن يتأتى الحصول عليه إلا من ألمانيا ذاتها، ولقد قمتُ بعملية تفتيش واسعة للبحث عن المفاتيح المفقودة، ولكن دون جدوى، ففتشتُ جيوب كلِّ ملابسى، وتجوَّلت بين كلِّ حجرات المنزل، ولم يعد أمامى إلا سلة المُهملات، ففتَّشتُ فيها أيضًا واكتشفتُ أنه يجرى تنظيفها تلقائيًّا؛ حيث يتم إلقاء ما بها من فتحة صغيرة فى المطبخ لكى ينزلق ما فيها إلى الدور السُّفلى فى العمارة حيث مجمع المُخلفات اليوميَّة، وكنتُ أعلم أن العمال المسئولين عن تجميع القمامة يأتون فى التَّاسعة صباحًا فسارعتُ إلى الدُّور الأرضى فى البناية اللندنيَّة العتيقة، وشرحتُ لعُمال القمامة ما جرى وأنا شديد الضِّيق واليأس، فقاموا من جانبهم بعملية تفتيش سريعة للمخلفات الموجودة ولم يجدوا شيئًا وتحرَّكوا بسيارتهم الكبيرة، فأصابنى اليأس الشَّديد وأدركتُ أننى قد دخلتُ فى حلقةٍ مُفرغةٍ لا تقل ضيقًا عن حلقة سلسلة المفاتيح ذاتها، وأمضيتُ يومين كاملين أحاول استخراج بدائل للمفاتيح المفقودة، ولحُسن حظى أننى قد تمكنتُ من الحصول على مفتاح احتياطى للسيارة كنتُ أحتفظ به فى مكان آمن.
الطَّريف أننى بعد أن قضيتُ عدة أيام استخرجتُ خلالها معظم المفاتيح البديلة، فإذا بجرس الباب يدقُّ ذات صباح وعامل القمامة يقول لى إنهم قد وجدوا سلسلة المفاتيح كاملةً عند عملية الفَرْز المُتقدمة للقمامة فى مكانٍ بعيدٍ، وبعضهم تذكَّر أنها تخصنى، ولا يتصوَّر أحدٌ كم كانت فرحتى عندما أمسكتُ بمفاتيحى فى يدى، وشكرتُ العامل أدبيًّا وماديًّا، وحمدتُ الله أننى قد استرددتُ مفاتيحى الأصليَّة وأصبح لدىَّ احتياطى لمعظمها من خلال ما قمتُ باستخراجه منها فى اليومين السَّابقين، كما قمتُ بعد ذلك بعملية توزيع المفاتيح بين أكثر من سلسلة واحدة، فهذه للمنزل وتلك للمكتب وثالثة للسَّيارة، حتى إذا وقعت الواقعة وفقدتُ إحداها لا أُصاب بشللٍ كاملٍ مثلما حدث لى عندما ضاعت، وعلى الرغم من أننى شديد التَّنظيم مُستغرق فى الدِّقَّة إلى حَدٍّ مُزعجٍ فإننى آمنتُ بأن الحذر لا يعفى من وقوع القدر، وأدركتُ أن النِّسيان صفةٌ إنسانيَّةٌ يمكن أن تغلب على كلِّ شىءٍ، وذلك ما حدث لى فى تلك المرَّة.
والغريب أن استخراج مفاتيح المنزل قد اقتضى منِّى الحصول على صورةٍ من عقد الإيجار وتقديمها لمحل المفاتيح حتى يوافق على استخراج بديل لما فقدته، وفقًا للمعمول به فى لندن حينذاك، ولحُسن الحَظِّ أننا اعتمدنا فى فترة ضياع سلسلة المفاتيح على نسخة زوجتى فيما يتصل بباب المنزل، وأيضًا الباب الرَّئيسى للبناية التى نسكن فيها.. إنها أيام خوالٍ تذكرتُها وأنا أعبث بمفاتيحى منذ أيام، مُقدِّرًا نجاح البحث العلمى فى حلِّ كثيرٍ من مشكلاتنا، إذ أصبحت الكروت المُمغنطة بديلاً عن معظم المفاتيح فى عصرنا، ومازلتُ أتذكَّر الحِمْل الثَّقيل لمفتاح حجرة الفندق فى السَّفريات منذ سنوات، وكيف كان الفندق يتعمَّد وضعه فى سلسلةٍ ثقيلةٍ للغاية حتى يضطر النَّزيل إلى تَرْكها فى الاستقبال بدلاً من وضعها فى جيبه، والآن الدُّنيا تغيَّرت، والعلم تقدَّم، وأصبحت مفاتيح حجرات الفندق بطاقات صغيرة مُمغنطة يضعها النَّزيل فى جيبه أينما ذهب، ولا حاجة به للمرور على الاستقبال عند الخروج من الفندق أو الدخول إليه، وعلى الرغم من التَّقدم العلمى الكبير فإن البعض مازال يحنُّ إلى المفاتيح القديمة باعتبارها وسيلةً مضمونةً ولا تتأثَّر بالقُرب من التليفون المحمول فتفقد المَغنطة، ويحتاج المرء إلى بديلٍ لها من موظف استقبال الفندق، والعلم يقذف لنا كل يوم بجديدٍ يضيئ حياتنا وينير الطَّريق أمامنا!
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 267
تاريخ النشر:27 فبراير 2018
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%81%d8%a7%d8%aa%d9%8a%d8%ad-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%89-%d8%b6%d8%a7%d8%b9%d8%aa-%d9%81%d9%89-%d9%84%d9%86%d8%af%d9%86/