لن أنسى برودة الجو فى مثل هذه الأيام من عام 1995، وكنت مديرًا لمعهد الدراسات الدبلوماسية، ودعانى منتدى دافوس ومؤسسه (كلاوس شواب) شخصيًا لكى أشترك مع السيد (جواد ظريف) - نائب وزير الخارجية الإيرانى حينذاك والذى أصبح وزيرًا للخارجية فيما بعد فى ندوة مشتركة حول موضوع الدين والسياسة فى الشرق الأوسط وكان ذلك فى القاعة الرئيسية للمنتدى باعتبارها الندوة الأولى فى تلك الدورة لذلك المنتدى العالمى وفى حضور حشد كبير من الساسة وكبار المسئولين والمفكرين والأكاديميين والإعلاميين وقد أدار الجلسة بينى وبين الزميل الإيرانى السيد (ريمون بار) رئيس وزراء فرنسا الأسبق، ولقد كانت الندوة مثيرة للغاية وحافلة بوجهات النظر المختلفة وقد تدخلت القاعة وفرضت موضوع (مسيحيى الشرق) فى إطار تلك الندوة وكان علينا أن نتحدث - ذلك الدبلوماسى الفارسى الشيعى وأنا الدبلوماسى المصرى السنى ونحلل ظاهرة الإسلام السياسى وما لحق بها من تطورات وما نتج عنها من أحداث، ولعلى أضع أمام القارئ أهم ما أثير فى تلك الندوة المهمة فى ذلك الوقت المبكر من تنامى تلك الظاهرة فلقد كنا قبل 11 سبتمبر 2001 بأكثر من ست سنوات كما كان اللقاء سابقًا على تفجير السفارتين الأمريكيتين فى شرق إفريقيا ومع ذلك كانت تلوح فى الأفق بوادر لغيوم قادمة وسحب كثيفة توحى بأن أمطار الإرهاب سوف تقذف بزخاتها العشوائية على البلاد والعباد، وكانت أهم النقاط التى تناولناها فى ندوة دافوس 1995 هي:
أولًا: بدأت محاضرتى بإيضاح العلاقة بين الإسلام وأهل الكتاب وخصوصية الصلات الوثيقة بين أتباع الديانات الإبراهيمية الثلاث وذكرت فى مستهل حديثى أن الله قد خاطب فى قرآنه الكريم الناس جميعًا دون تخصيص للمسلمين وحدهم وذلك فى عدة مواقع من الذكر الحكيم، ثم تطرقت إلى روح التسامح المتأصلة فى التكوين المصرى تجاه النصارى واليهود على مر التاريخ وذكرت رموزًا لشخصيات من هاتين الديانتين تبوأت مواقع مهمة فى تاريخ الدولة المصرية قديمًا وحديثًا بحيث كان إسهامهم فى الحضارة العربية الإسلامية مشهودًا ومرموقًا.
ثانيًا: تحدث السفير جواد ظريف عن الثورة الإيرانية وتأثيراتها على الشعوب الفارسية وأصدائها فى المنطقة مؤكدًا سعى طهران لإقامة علاقات حسن جوار إقليميًا مع تواصل إيجابى مع القوى الكبرى فى العالم مستنكرًا حملات التشويه من وجهة نظره للثورة الإسلامية فى إيران.
ثالثًا: ضربت من جانبى أمثلة للتسامح الذى دعا إليه الإسلام ورفض التطرف والغلو والتشدد والدعوة إلى الإخاء والمحبة وذكرت الآية الكريمة (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) ودعوت إلى التضامن الإسلامى المسيحى فى مواجهة الغزو الفكرى الذى يدس الخلاف ويخلق الفتن ويمهد لتوسيع الهوة بين الدول والشعوب.
رابعًا: تطرق السفير جواد ظريف إلى علاقات بلاده بالولايات المتحدة الأمريكية وأن إيران ترفض التدخل فى الشأن الداخلى أو محاولة دق إسفين بينها وبين جيرانها فى الخليج ودول غرب آسيا المجاورة، مؤكدًا أن الإسلام يعطى حق الثورة على الظلم وتغيير الأوضاع لما فيه صالح الأمة عند اللزوم، وأشار ظريف ردًا على سؤال حول مبدأ تصدير الثورة بأن ذلك ليس صحيحًا ولكن دول المنطقة بدأت ترفض الظلم وتقاوم التجبر.
خامسًا: تدخل السيد ريمون بار بهدوئه وحكمته لكى يقول إن التعايش المشترك بين أوروبا خصوصًا فى حوض المتوسط ودول الشرق الأوسط خصوصًا فى الشمال الإفريقى كانت دائمًا قائمة على التفاعل والتعايش برغم كل المشكلات والظواهر التى طرأت على تلك العلاقة فى فترات معينة مثلما حدث بين فرنسا والجزائر وهى علاقة لم يكن لها بعد دينى ولا حتى ثقافى، ولكنها تعبير عن ظهور الروح الوطنية فى مرحلة تصفية الاستعمار.
سادسًا: أشرت إلى أهمية مثل هذه اللقاءات فى فتح نوافذ ضوء للتفكير البناء والابتعاد عن العزلة التى تصنع الخصومة وتطيح بالثقة وتؤدى إلى المخاوف المتبادلة وأشرت يومها إلى أن الفوارق بين مذهب أهل السنة والجماعة فى جانب والمذهب الشيعى فى جانب آخر لا تمثل مشكلة حقيقية ولكنها ظاهرة طارئة قد يحاول البعض استغلالها خصوصًا من القوى الأجنبية فى المنطقة وضربت مثلًا يومها بالمصاهرة بين أكبر عرش سنى فى الشرق الأوسط وولى عهد إيران الذى أصبح الإمبراطور محمد رضا بهلوى والذى اقترن بابنة الملك فؤاد الأول وشقيقة عاهل مصر فاروق ولم يثر الأزهر يومها ولا أى مرجع شيعى ما يختلف مع تلك المصاهرة الملكية.
سابعًا: تحدث السفير جواد ظريف عن أهمية توثيق العلاقة بين الشعوب المغلوبة على أمرها فى مواجهة الطغيان وسياسة ازدواج المعايير مع الرغبة فى إصلاح الشئون الداخلية للدول المختلفة خصوصًا وأن الإسلام يدعو إلى الأفضل ويدعم روح النهضة فى كل العصور.
ثامنًا: قلت إننى أعترف صراحة أن الإسلام السياسى مصرى المولد ولكنه فى ذات الوقت آسيوى العضلات كما أكدت أن الشعب المصرى يؤمن بالإسلام النقى الوسطى البسيط وقلت إن الفلاح المصرى يصلى على ضفاف النهر فى خشوع دون أن يعبأ بالخلافات المذهبية أو الفتن الطائفية كما أشرت إلى أهمية الوجود القبطى فى المكون المصرى المعاصر وطرحت اسم بطرس بطرس غالى أمين عام الأمم المتحدة وقتها كنموذج تعتز به مصر على نحو غير مسبوق.
إننى أتذكر تلك الندوة المهمة التى استقبلتها أجهزة الإعلام الدولية والإقليمية بحفاوة بالغة لأن الحوار كان يمتص روح الكراهية ويطيح بسوء الفهم ويعتبر مظهرًا حضاريًا يجب أن نسعى إليه وأن نتواصل معه وأن نشارك فيه.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47902
تاريخ النشر: 30 يناير 2018
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/635156.aspx