الصهيونية تاريخيًا هي حركة عنصرية عدوانية استيطانية نشأت لتنتزع وطنًا من أصحابه الحقيقيين لتجعل منه وطنًا قوميًا لليهود القادمين من الشمال خصوصًا بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية وبروز ما يمكن تسميته «المسألة اليهودية» في أوروبا، وقد كان دور اليهود في الحرب العالمية الأولى مبعث انتقام عنيف من الزعيم النازي (ادولف هتلر) حيث برزت بشدة مأساة (الهولوكست) وبرع اليهود في استخدامها إعلاميًا وتوظيفها سياسيًا على نحو غير مسبوق حتى أصبح الاعتراف بها شرطًا للوجود السياسي على ساحة أي دولة أما إنكارها فقد أضحى هو الخطيئة بعينها! ومع ذلك فإننى أكتب اليوم وبحذر شديد لعقد مقارنة منهجية فقط بين أكبر حركتين تأثر بهما القرن العشرون وما بعده ، وأزعم أن التشابه بينهما من حيث التنظيم واستخدام الأداة الإعلامية والقوة الاقتصادية والتأثير في الدوائر السياسية والقيام بعملية غسيل مخ لأجيال متعاقبة لعقود مختلفة ـــ هما الحركة الصهيونية المستندة إلى فهم مغلوط للديانة اليهودية وحركة الإسلام السياسي المستندة إلى الديانة الإسلامية ـــ وأتحفظ هنا بوضوح فالتشابك في الجوهر ليس قائمًا كما أن مضمون الدعوتين مختلف تمامًا لأن الحركة الصهيونية تهدف إلى اغتصاب حقوق الغير، أما حركة الإسلام السياسي فكانت تزعم في ظاهرها الدعوة إلى صحوة إسلامية لاستعادة قوة الدفع التي تحرك بها المسلمون الأوائل مع رغبة في تغيير النظم القائمة لتصبح ذات طبيعة مختلفة تتماشى مع فكر «جماعة الإخوان المسلمين» وهي الأم الشرعية لكل حركات الإسلام السياسي التالية على قيامها لذلك فإنني أظن أن أكبر تيارين تأثرت بهما الأمم والشعوب على امتداد العقود الثمانية الأخيرة هما الحركة الصهيونية بما لها وما عليها من جانب وحركة الإسلام السياسي بما لها وما عليها من جانب آخر، وسوف ينتفض البعض من كيفية عقد مقارنة بين حركة عنصرية متعصبة وحركة دعوية تقوم على نهج خاص في الشريعة الإسلامية وفهم ذاتي للفقه الذي تستمد منه، والواقع أن المقارنة هنا هي من حيث الشكل والمسار التاريخي والأصداء الدولية ولكن جوهر الحركتين مختلف اختلافًا واسعًا إلا أننا نستطيع باطمئنان أن نقول الآتي:
أولًا: إن أبرز تيارين تأثرت بهما الدول خصوصًا في منطقة الشرق الأوسط هما الحركة الصهيونية التي أدت إلى ظهور دولة إسرائيل ثم حركة الإسلام السياسي التي جاء ميلادها على يد الشيخ حسن البنا عام 1928 لتكون هي الحركة التالية دوليًا في الأهمية للحركة الصهيونية، فتيار الإسلام السياسي غير معالم المنطقة وتأثرت به أمم وشعوب لا في الشرق الأوسط وحده ولكن ربما كان التأثير واسعًا ليشمل كل من تأثر بنتائج التطرف الديني وميلاد الإرهاب على النحو الذي نشهده حاليًا، ويجمع بين الحركتين عنصر تشابه واحد هو أن كليهما يستند إلى عقيدة دينية سواء كان فهمه لها صحيحًا أو مغلوطًا، ولنا هنا أن نشير أيضًا إلى اعتماد الحركتين على عاملي الاقتصاد والإعلام كقاعدة لتغيير السياسات والعبث بالمسرح العام للأحداث على نطاق دولي وإقليمي ومحلي أيضًا.
ثانيا: إن هذين التيارين قد صبغا أروقة العالم المعاصر بتأثيرهما القوي ونتائجهما الضخمة على السياسات والدول والشعوب والمجتمعات كما أن كليهما حركة كفاحية تستند إلى رؤية بعيدة المدى ـــ قد نختلف معها ـــ ولكنها تبقى ظاهرة تتحكم في روح العصر ومقدرات الدول.
ثالثًا: سوف نلحظ ارتكاز التيارين على دينين من الثلاثية الإبراهيمية للديانات السماوية وتبقى المسيحية إلى حد كبير بعيدة عن التيارين، وإن كنا نزعم وجود تقارب بين بعض عناصرها المؤثرة والحركة الصهيونية بل واحتضانها لها في بعض الفترات هي أمور لا تخفى على أحد، فالديانتان اليهودية والمسيحية تقتربان تاريخيًا وتتداخلان حضاريًا، ويكفي أن نتذكر أن المضي على نسق السيد المسيح يجعل صاحبه يولد يهوديًا حتى يتم تعميده مسيحيًا، بينما يبدو الإسلام على الجانب الآخر قد يحمل لمحة من تشدد يقترب من الروح «العبرانية» مع رحمة ومحبة تلتقي مع الديانة المسيحية.
إنني أريد أن أقول وبوضوح إن حركتين كبيرتين قد تأثر بهما العالم المعاصر تستخدم إحداهما الدين اليهودي وتستخدم الثانية الدين الإسلامي وتشكلان معًا ظاهرة ضخمة في سماء العلاقات الدولية المعاصرة، لذلك فإنني أزعم أن أكبر تيارين في الحياة السياسية المعاصرة هما من طبيعة واحدة تمتزج في كل منهما التأثيرات الدينية مع المصالح السياسية بحيث يرتدي كل تيار في النهاية رداءً عقائديًا يشجع على الخروج عن المألوف ويسمح بتطويع الحقائق وتحويل المسار النهائي في خدمة أهدافه، لذلك فإن منطقة الشرق الأوسط تحديدًا قد تحولت في النهاية إلى بؤرة حقيقية للصراع الكبير حيث يلتقي التياران من خلال تجسيد المقاومة الفلسطينية ــــ خصوصًا ذراعها الإسلامية ـــ وهنا نكتشف ما يدعو إلى الدهشة وهو ذلك التعايش بين البشر ولا نملك في النهاية إلا أن نردد أن الخلافات الفكرية لا تعني أبدًا الخصومة الثأرية إذ إن الهدف واحد في النهاية وهو الارتقاء بالشعوب وتخليصها مما اعتراها من أفكار وافدة أطاحت بروح التسامح التاريخي والتعايش الجغرافي المشترك وفتحت بابًا للصراع الدائم ..إننا نرى أن احترام الشعائر أمر مقدس ويجب وضع الأديان السماوية الثلاثة في مكانها اللائق، ولكننا لا نستطيع أن نتجاهل كل الخيارات ومختلف التيارات مهما تراكمت الغيوم أو هطلت الأمطار أو تكاثفت المشكلات وادلهمت الأمور!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47916
تاريخ النشر: 13 فبراير 2018
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/637372.aspx