يحفل تاريخ الفكر المصرى المعاصر بومضات مضيئة لابد من الإشارة إليها، وإلقاء الضوء عليها، إذ إن مسار الفكر التقليدى يبدو أحيانًا أقرب إلى الركود منه إلى الحركة بحيث تتغلب العلوم النقلية على الدراسات العقلية، وتمضى كتائب الباحثين فى مسار روتينى يتمسك بالأفكار القديمة والآراء المكررة، ولا تبدو قادرة على الخروج من أسوار الماضي، ولقد انسحب الأمر ليتجاوز الفكر فيصيب الأدب والشعر والفن بذات المخاوف التى أدت إلى تفرق العناصر المتميزة من ذوى الرؤية الكاملة والسمعة العالية ليؤثروا الابتعاد عن الساحة فى أزمنة الفراغ الفكرى والخواء الذهني، كما أن الإحساس العميق والإيمان الصادق بحركة الكون وتطور الوجود تمنح أصحابها الرؤية البعيدة والإدراك الكامل، فلا يعارضون كل جديد ولا يتمسكون بكل قديم، فالإمام المجدد محمد عبده - رحمه الله هو نموذج حى للقدرة على تنقية المخزون الأكاديمى والثقافى من الشوائب والمضى نحو التمسك بفلسفة دينية عصرية، والتجديد يعنى الاجتهاد فى التفكير من خلال منظور رحب لا يعرف جيدًا تلك المخاوف والمحاذير التى تجعل الباحث مترددًا فى أوقات الأزمات، فإذا كان الإمام محمد عبده هو مجدد فى إصلاح الدين والاجتماع فإن لدينا مجددين آخرين فى ميادين مختلفة، فالعقاد مجدد فى طرائق التفكير وأساليب التحليل ومناهج البحث، كما أن طه حسين هو صاحب القراءة الفريدة فى تاريخ الحياة العربية الإسلامية والذى انتقل منها إلى شئون الناس وأحوال المعذبين فى الأرض، كما أن لدينا فى الفكر السياسى المصرى المعاصر مجددين من نوع آخر اتسم بعضهم بالتوازن الشديد، واتصف بعضهم الآخر بالتهور فى طرح أفكار لم تكن مألوفة، فسلامة موسى فى نظرى مجدد فى أساليب الثقافة وطرائق التفكير كذلك فإن مصطفى كامل قبله كان مجددًا فى الخطاب السياسى الذى خرج به من دائرة العبارات الإنشائية المألوفة إلى منهج مختلف يجعل الخطاب رسالة قابلة للترجمة والوصول إلى العقل الأوروبى ذاته لكشف مظالم الإنجليز وجرائم احتلالهم، من هنا فإننا نرى أن التجديد ليس صفة تلحق بشخص بذاته، أو هى شعار يرفعه صاحبه، ولكنها قبل ذلك كله هى ثورة فكرية تدفع أصحابها للمضى فى طرق جديدة ودروب غير مألوفة بما لا يخالف الثوابت الدينية أو الاجتماعية أو الأخلاقية، إن التجديد له شروطه وضوابطه ولعلنا نوجزها فى النقاط الثلاث التالية:
أولًا: إن التجديد لا يعنى أبدًا البدء من الصفر، أو أننا نسعى لإسقاط الثوابت ولكن التجديد فى معناه الحقيقى يعنى القيام بقراءة جديدة لنص قديم أى أننا ننتقل من مرحلة معينة فى فهم النص إلى مرحلة أعلى تسمح لنا بأن نرى جديدًا لم يكن متاحًا لنا من قبل، فالتجديد عملية تكميلية وليست مصدرًا لإنشاء نصوص بديلة أو أفكار مختلفة لم يكن الوصول إليها ممكنًا فى مرحلة سابقة، لذلك فإن التجديد يجب أن يكون عملية شاملة لا تتوقف عند حد معين بل هى تسعى إلى الاحتفاظ بالثوابت المؤكدة والانطلاق بعد ذلك لتنقية النص من شوائب التفسير المغلوط، ثم وضعه فى إطار عصرى يسمح لنا بأن نقول إننا قد جددنا فهم النص، ولم نخرج عليه وهذه نقطة مهمة لأنه عند الحديث عن تجديد الخطاب الدينى فإن بعض رجال الدين يشعرون بالقلق ويتوهمون أنها محاولة للعبث بجوهر العقيدة، أو هى عملية التفاف حول الحقائق المرتبطة بالنص الدينى المقدس بينما الأمر بعيد عن ذلك تمامًا، لأن أهم مرحلة هى تلك التى يتخلص فيها الباحث من شوائب النصوص الدخيلة لكى يصبح النص الدينى نقيًا يمكن التعويل عليه والبناء على آثاره الإيجابية.
ثانيًا: إن المقولة الشهيرة للإمام الشافعى (رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب) هى دستور حقيقى لمن يريد أن يحترم خيارات الآخر ويقوم بعملية تجديد طوعية لمفهوم النص وإسناده مدلولًا عقليًا لا ينتقص منه بل يضيف عليه، فالتجديد فى الحقيقة أمر يتصل بالعقل ولا ينتقص من الإيمان، بل قد يؤدى إلى تعميق ورسوخ الصحيح منه، ولذلك فإننا ندرك قيمة المجددين فى حياتنا الفكرية بما تشمله من قضايا دينية وثقافية واجتماعية وحتى سياسية لأن العبرة فى النهاية تكون بما نصل إليه عقليًا فالمسألة تبدأ بالعقل وتنتهى إليه.
ثالثًا: يسعى المجددون إلى جذب العقول الواعية ولا يتجهون إلى استغلال دورهم فى المضى على منهج خاطئ يبدو للمتابع، وكأن المجدد يريد فقط أن يذيع صيته وأن يبدو مختلفًا عن سواه حتى لو أدى ذلك إلى تغيير جذرى فى جوهر العقلية الفكرية المطروحة، وينبغى أن يكون واضحًا أن المجدد ينتمى إلى قادة الرأى وزعماء الإصلاح بما يملكه من أدوات فهو ليس ناشطًا سياسيًا أو مهيجًا جماهيريًا، أو داعية متطرفة، فالتجديد لا يعنى أبدًا المضى وراء شطحات لا سند لها من الحقيقة وإلا نكون قد وقعنا فى نفس الخطأ، ولقد لاحظنا فى السنوات الأخيرة أن بعض من يدعون التجديد خصوصًا فى الخطاب الدينى قد لجأوا إلى أسلوب يعتمد على الإثارة وإلقاء القنابل الفكرية دون تمحيص حقيقي، أو دراسة مسئولة، ونحن نقول لهؤلاء وأولئك إن التجديد مسئولية لا يتصدى لها إلا من رسخ إيمانه واتسع عقله وامتدت بصيرته لكى ترى ما لا يراه الآخرون.
إن التجديد عملية حيوية لا يتصدى لها إلا من يعرفون ويدركون جيدًا أهمية النص، ولقد عرف تاريخنا المعاصر نماذج لمجددين احتكموا إلى ضمائرهم وأعملوا عقولهم فسعى إليهم الناس يطلبون الرأى ويلتمسون الفهم الصحيح، فالتجديد فى النهاية مسئولية أخلاقية ورسالة علمية واجتهاد عقلي.
د. مصطفى الفقى;
جريدة الأهرام العدد 47930
تاريخ النشر: 27 فبراير 2018
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/639525.aspx