منذ أسابيع قليلة تلقيت دعوة من (معهد البحوث والدراسات الاستراتيجية لدول حوض النيل) بجامعة الفيوم حملها لى الدكتور عدلى سعداوى عميد ذلك المعهد الفريد فى تخصصه برعاية من الدكتور خالد إسماعيل حمزة رئيس الجامعة، وكان موضوع الندوة يدور حول قضايا ومشكلات نهر النيل وجرى انعقادها فى أحد فنادق محافظة الجيزة غير بعيد عن طريق الفيوم الصحراوي، وقد دعيت لترؤس الجلسة الأولى للمؤتمر والتى استغرقت أكثر من خمس ساعات متصلة، وقد حضر الجلسة عدد كبير من الشخصيات المرموقة وخبراء نهر النيل يتصدرهم شيخ وزراء الرى الدكتور محمود أبو زيد رئيس المجلس العربى للمياه ومعه وزيران سابقان للرى أيضًا هما الدكتور حسين العطفى والدكتور حسام مغازى، مع مجموعة متميزة من خبراء القانون الدولى والشئون الإفريقية وبعض السفراء السابقين، بالإضافة إلى الأبناء اللامعين لمدرسة الرى المصرية، وقد طرحت فى تلك الجلسة رؤى وأفكار تستحق الاهتمام بكل المعايير خصوصًا أن الرئيس «عبد الفتاح السيسى» يتحرك فى القارة الإفريقية بصورة تعيد الحيوية إلى الدور المصرى، ويكفى أن نتذكر أنه قد زار فى شهر واحد أوغندا وإثيوبيا وكينيا زيارات منفصلة تشير إلى اهتمام مصر بدول حوض النهر اهتمامًا مستمرًا وليس مجرد استعراض موسمى يرتبط بمناسبة معينة ثم يتوقف بعدها، وإذا كان موضوع سد النهضة قد وضع ملف مياه النيل فى مقدمة الملفات على مكتب الرئيس إلا أن ذلك لا يعنى أن مصر تسعى فقط لحل مشكلة راهنة أو الخروج من أزمة طارئة لأن موقف القاهرة يتأسس على عدد من المحاور يحسن أن نشير إليها وأن نتوقف عندها:
أولًا: إن القضية الحقيقية ليست فى بناء سد النهضة من عدمه، ولكنها تتركز حول حصة مصر من مياه النهر، فنحن لا ننكر على الأشقاء فى إثيوبيا السعى نحو إقامة سد يسهم فى تنمية البلاد ولكن الذى يدهشنا هو أن ذلك السد الذى يحتجز أربعة وسبعين مليار متر مكعب يتجاوز بكثير الهدف المعلن لتوليد الطاقة الكهربية أو حتى استزراع مناطق جديدة تحت الهضبة، فالمقلق حقًا أن هذا السد له أهداف سياسية واقتصادية أخرى فهو يؤدى إلى شراكة دول من خارج دول الحوض فى مياه النهر بتدفق المياه على مساحات مزروعة لمصلحة تلك الدول البعيدة عن المجرى والمصب ولكنها تلوح باستثماراتها الزراعية هناك فى إثيوبيا والسودان بصورة تنقل المياه داخل المحاصيل المستزرعة غير مكترثين بتأثير ذلك على معدل تدفق مياه النهر إلى مصر، وهى عملية التفاف واضحة لنقل مياه النيل لدول ليست داخل حوضه، وهنا يكمن جوهر المشكلة فبناء السد محاولة لتحويل جزء من حصة مصر فى المياه إلى كهرباء ومحاصيل زراعية لدول أخري، أى أنها عملية ملتوية لتصدير مياه النيل من إحدى دول المنبع على حساب دول المجرى والمصب، وذلك إجحاف بحقوق تاريخية فى المياه ومسيرة طبيعية للنهر.
ثانيًا: إن هناك بدائل أمام دول حوض النهر يمكن أن تجعل الجميع رابحين إذ إن معظم مياه النهر مهدرة دون استغلال، ويمكن أن يتشكل من دول الحوض مجلس أعلى لإدارة مياهه يجرى من خلاله توزيع مياه النهر وفقًا لحاجات دوله وحجم سكانها ودون تفرقة بين دول المنبع والمجرى والمصب، فالنهر وحدة طبيعية متكاملة لا يستأثر فيها طرف بمزايا على حساب أطراف أخرى، كما أن هناك مقترحات بناءة وأفكارا إيجابية يمكن أن تحقق فائدة للجميع، مثل تنفيذ الطريق البرى من أعالى النيل إلى شاطئ المتوسط لفتح منفذ لدول الحوض، وفى مقدمتها إثيوبيا والسودان للانفتاح على أوروبا تجاريًا وثقافيًا من خلال الموانى المصرية بإمكاناتها الضخمة وكفاءتها العالية، أى أن التفكير قليلًا خارج الإطار التقليدى يمكن أن يسمح بتوليد أفكار جديدة تزيد فى معدلاتها عن توليد الكهرباء المزعومة بحيث نخلق شبكة مصالح تؤدى إلى شراكة حقيقية بين دول النهر على نحو يحقق الخير للجميع.
ثالثًا: إننى أهيب بالأشقاء العرب خصوصًا فى منطقة الخليج بتوجيه النصيحة إلى أشقائنا فى أعالى النهر لكى يدركوا أن خنق مصر عن طريق المياه أمر مستحيل لأنها كما قال الرئيس السيسى فى مؤتمر الشباب الأخير ــــ مسألة حياة أو موت خصوصًا وأن فى مياه النهر ما يكفى دول الحوض ويسهم فى تنميتها وازدهار شعوبها، وذلك بدلًا من الأفكار الضيقة والنظرات المحدودة التى قد تنطوى أحيانًا على نوع من الكيدية السياسية نتيجة أوهام منها أن التحكم الفردى فى مياه النهر سوف يؤدى إلى إضعاف مصر وكأن مصر سوف تستجيب لما يجرى دون أن تحرك ساكنًا ويكفى أن نتذكر أن إسرائيل قد عرضت على مصر الوساطة فى موضوع سد النهضة وهو أمر يشير هو الآخر إلى أن مياه النيل هى حلم لكثير من الدول للخروج من أزماتها وتحقيق أهدافها على حساب مائة مليون مصري!
إن المسكوت عنه فى موضوع سد النهضة هو ذلك الغموض الذى يكتنف بناء ذلك السد تمويلًا وإدارة وحماية لذلك فنحن نطالب الآن باتفاق جماعى يحل محل (إطار عنتيبي) أو يعدله على نحو يكفل العدالة المطلوبة للجميع، إننا نعترف ـــ كما قال الرئيس المصرى أمام البرلمان الإثيوبى بحق إثيوبيا فى التنمية، ومن جانبهم عليهم أن يعترفوا بحقوقنا فى مياه النهر الذى عشنا به ومعه، حارسًا للحياة ومتدفقًا بالمياه، وشاهدًا على التاريخ!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47566
تاريخ النشر: 28 فبراير 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/581096.aspx