عندما توليت إدارة مكتبة الإسكندرية دعانى زملائى الجدد لزيارة أحد المقارت الثقافية المهمة للمكتبة فى قلب العاصمة المصرية، وبدأت أحضر معهم نشاطات المكتبة فى (بيت السناري) خلف مسجد السيدة زينب - رضى الله عنها - وهو بيت مملوكى عريق قامت وزارة الآثار بتجديده وتحديثه حتى أصبح ملتقًى للمفكرين وتجمعًا للمثقفين ومتنفسًا يرتاده شباب ذلك الحى الشعبى وأطفاله طلبًا للمعرفة ورغبة فى التزود ثقافيًا وعلميًا إذ تقام فيه ليالى مشتركة مع دول أخرى إلى جانب مناسبات تتصل بشخصيات كبيرة فى تاريخنا الفكرى والثقافى مثلما هو الأمر فى ليلة عبد الرحمن الكواكبى وليلة عبد الرحمن الأبنودى وغيرهما من الشخصيات المرموقة التى عبرت على عالم السياسة والثقافة والعلم والأدب والفن، وقد لفت نظرى الإقبال الشديد على مناسبات بيت السنارى والحرص على الالتقاء فى ذلك المكان الذى يحمل عبق التاريخ وتطل منه مظاهر الحياة المملوكية فى مصر الإسلامية، ولقد أدركت كما يعلم الجميع أن لدينا ثروة هائلة من البيوت العريقة والوكالات القديمة مثل (قصر الأمير طاز) و(بيت السحيمي) و(بيت المنسترلي) وغيرها من عمائر تاريخ القاهرة بمراحله المختلفة، وتمنيت لو أننا نجحنا مثلما فعلت دول أخرى كالمغرب وسوريا فى إحالة عدد كبير من البيوت الأثرية إلى مقاصد سياحية ومطاعم متميزة تستهوى الضيف الأجنبى وتشده إلى الرحيق التاريخى لعبق المدينة وتراثها الخالد، وأنا أتمنى على وزيرة الثقافة ووزيرى الآثار والسياحة إعطاء دفعة كبيرة لهذا النوع من النشاط الثقافى والسياحى الذى نتمتع فيه بميزة نسبية قد لا تتوافر لغيرنا إذ إن أغلى ما تملكه مصر هو تراثها الباقى الذى لا يناطحه أحد فى ثرائه وقيمته وتنوعه، ولقد زرت مدينة (أصيلة) منذ سنوات بدعوة من وزير الثقافة ثم الخارجية المغربية السيد محمد بن عيسى صاحب منتدى أصيلة السنوى الذى يؤمه المثقفون من أنحاء العالم وشهدت كيف تحولت المنازل القديمة إلى مزارات رائعة وملتقيات تشد الأبصار وتبعث البهجة، ولماذا نذهب بعيدًا؟! أليس هناك كثير من فنادق العالم الكبرى التى كانت قصورًا فى الأصل ثم جرى الاستفادة بطابعها المعمارى وشخصيتها الفريدة لكى تكون نزلًا للقادمين من كل حدب وصوب؟ ولنا هنا بعض الملاحظات:
أولًا: إن مصر أكثر دول العالم فى تراثها ولكنها من أكثر دول العالم إهمالًا له وتفريطًا فيه، نعم لقد أقمنا المتاحف بالعشرات ونجحت وزارة الثقافة خصوصًا فى عهد وزيرها الفنان فاروق حسنى ثم وزارة الآثار وأبرز رموزها د.زاهى حواس فى تجديد وإعمار عدد من القصور القديمة والبيوت التاريخية ولكن مازالت آثارنا مبعثرة فى كل مكان، لقد نجح فاروق حسنى فى تحويل شارع المعز إلى متحف كبير ولكن مازالت هناك آثار مهملة ومرافق جرى احتلالها من أصحاب الحرف بل وأحيانًا من لصوص الليل وعصابات الإجرام حتى طالت السرقات منابر المساجد الأثرية وأبوابها العتيقة وأصابتنا حالة من اللامبالاة والاستخفاف بما نملكه وكأننا نهدر أغلى ثروة نملكها، فلقد سكن من لا يجدون مأوى فى آثارنا الإسلامية وجرت عملية نزح كبرى لآثارنا الفرعونية وليس سرًا أن تجارة الآثار فى مصر هى واحدة من الأبواب الخلفية لنزح ثروات هذا الوطن الكبير.
ثانيًا: إن مصر بلد غنى بالآثار المتراكمة للحضارات المتعاقبة والثقافات التى وفدت على الكنانة حتى أننا نقول إنه يوجد تحت كل حجر أثر وقد قيل لى بشكل جازم إن تحت طريق الكباش فى مدينة الأقصر طريقا مماثلا، بل لقد حدثنى أخيرا أحد أساتذة التاريخ اليونانى الذين ينقبون عن الآثار أن قريتى فى محافظة البحيرة فيها آثار رومانية ويونانية وأنهم اكتشفوا تحت بعض التلال مدينة كاملة، وأتذكر أننا كنا نمر على ذلك التل ولا يخطر ببالنا ما يقبع تحته فلقد اكتفى الناس بتسميته دائمًا (الكوم الكفري) وكان التغيير الوحيد الذى قمنا به بعد ثورة يوليو عام 1952 هو تسميته (بكوم النصر) مع استمرار الوضع على ما هو عليه، ولذلك فإننا نتلقى لومًا يصل إلى حد التقريع من الهيئات الدولية المعنية بالتراث والثقافة وفى مقدمتها منظمة اليونسكو بسبب حالة عدم الاكتراث التى تصل إلى حد الإهمال فى تعاملنا مع الكثير من آثارنا التى أصبح التنقيب غير القانونى عنها يمثل موجة جديدة من السطو على التراث العام فى دولة هى الأعرق فى تاريخ البشرية.
ثالثًا: قد يقول البعض، ماذا عن آثارنا فى الخارج؟ وهنا أسمح لنفسى بممارسة حق الاختلاف مع التيار الغالب لكى أقول إنه من حسن الحظ أن بعض الآثار النادرة فى مكان آمن مثلما هو الأمر بالنسبة لحجر رشيد فى بريطانيا أو رأس نفرتيتى فى ألمانيا أو المسلة الرائعة فى باريس، كما أن رحلات الملك الذهبى توت عنخ آمون إلى الخارج سفيرًا لأعظم حضارات الأرض كانت هى الأخرى عملًا واعيًا، فليست القضية أن توجد آثارنا فى الخارج ولكن السؤال المطروح هل تنسب تلك الآثار إلى دول أخرى أم أن هناك وعيًا كاملًا بأنها آثار مصر ونتاج حضارتها العظيمة؟ وأنا أظن أن الآخرين حافظوا على آثارنا أكثر مما فعلنا نحن بل وأظن أيضًا أنهم يحتفون بها احتفاءً كبيرًا، فلقد شاهدت شخصيًا حفاوة الشعب النمساوى ببعض الآثار المصرية، ورأيت طوابير تقف مع ساعات الفجر الأولى أمام المتاحف لدخول المتحف الذى كان يستضيف تلك الآثار وقد كان بالمناسبة هو مبنى القصر الجمهورى ذاته احترامًا وتقديرًا.
إن كل ما أطالب به هو أن يصدر تشريع دولى يعطى لبلد المنشأ جزءًا من عائد عرض آثارها فى المتاحف الأجنبية لأن ذلك هو منطق العدل فى أن يحصل الأحفاد على بعض حقوق الأجداد.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47937
تاريخ النشر: 6 مارس 2018
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/640629.aspx