نقول دائمًا إن الثقافة هى أغلى سلعة تصدرها مصر فهى مستودع الكتاب والقصيدة والمسرحية والفيلم السينمائى والأغنية وكل أنماط الموسيقى العالمية والمحلية، إنها مصر حافظة التراث والوعاء الحقيقى للثقافات والحضارات فى المنطقة، وأظن أن هذه القوى الناعمة لم تستخدم حتى الآن كما ينبغي، فنحن مقصرون فى حق ما نملك، فلقد نزحت لبعض الدول مسروقات من تراثنا الوطنى آثار وفكرًا وفنًا ولكن مصر فى النهاية لديها رصيد لا ينضب ومعين لا ينتهي، ولقد صدق (المتنبي) حين قال (نامت نواطير مصر عن ثعالبها فقد بشمن وما تفنى العناقيد)، وقديمًا قالوا إن مصر من أغنى أمم الأرض لأنه تجرى عملية نهب لها من أعدائها وأحيانًا من أبنائها على مدى سبعة آلاف عام ولا تزال قادرة على العطاء! أقول ذلك وأنا أزعم أن العامل الثقافى هو المتغير المستقل فى العلاقات الدولية المعاصرة والذى تتبعه متغيرات أخرى تتأثر به وتمضى وراءه، فإذا تأملنا الأفكار الثلاث الكبرى التى يتحدث عنها الغرب فى العقود الثلاثة الأخيرة وهى العولمة، وصراع الحضارات، والحرب على الإرهاب لوجدنا أن هذه القضايا الثلاث الكبرى فى مسيرة الإنسانية حاليًا هى قضايا ثقافية بالدرجة الأولي، ولذلك يجب أن نعى جيدًا أن العامل الثقافى أصبح شديد التأثير فى المجتمع الدولى المعاصر وأضحت له الكلمة العليا فى تحقيق الأهداف والوصول إلى الغايات، ولم يعد فى مقدور أحد أن يتجاهل هذه الحقيقة، ولعل جسر التواصل بين مصر وغيرها من الأمم يبدأ دائمًا بالقضايا الثقافية التى تؤثر تأثيرًا شديدًا على طبيعة العلاقة بين مصر وغيرها من الأمم والشعوب، وإن كانت هناك دول تعتز بسلعها الاقتصادية ومصادرها الإنتاجية ومواردها الطبيعية فإن مصر تزهو بتراثها الحضارى ورصيدها الثقافى وتاريخها العريق، فالحضارة الفرعونية هى الحضارة الأم التى ألهمت الإغريق والرومان، وتواكبت مع الصين القديمة، وبلاد الرافدين، وتبادلت رسائل التنوير مع الأمم القديمة والشعوب العظيمة، وإذا كان قد جاء عليها حين من الدهر تراجع فيها دورها أو خفت صوتها إلا أنها كانت ولا تزال وسوف تظل ركيزة محورية فى حركة البشرية بحكم التاريخ والجغرافيا والسكان، فهى تقف على الناصية الإفريقية الآسيوية فى مواجهة أوروبا وهى حافظة عبقرية الزمان بالتراكم الضخم الذى لا يدانيها فيه أحد، فالمصرى منذ القدم يملك ذكاء اليدين على حد التعبير الفريد الذى نطق به عالم الجغرافيا الراحل د. سليمان حزين، ولقد أدركت الحكومات المصرية المتعاقبة أهمية الدور الثقافى لمصر وتأثير القوى الناعمة التى تملكها فى علاقاتها بالأشقاء والأصدقاء، لأنها حضارة ملتقى وبوتقة انصهرت فيها ثقافات عظمى وديانات كبري، وأود هنا أن أطرح النقاط التالية:
أولًا: لقد أنشأت مصر وزارة للعلاقات الثقافية الدولية منذ عدة عقود، ولكن تلك الوزارة تأرجحت بين الإبقاء والإلغاء مع دمج دورها فى أدوار غيرها من الوزارات الشبيهة، وفى مقدمتها وزارات الثقافة والآثار والسياحة، والذين يعرفون مصر يدركون ثراءها الواسع وحيازتها آليات القوى الناعمة وأدوات التقدم الحضاري.
ثانيًا: إن ما أظهرته مصر من سلع ثقافية لا يزيد عن ربع المتاح منها لأن تراثها معين لا ينضب، فلديها مئات الآلاف من القطع الأثرية والأديرة القديمة والكنائس العتيقة والمساجد العظيمة، فضلًا عن القلاع والحصون والمعابد الفرعونية التى لا نظير لها بشهادة (اليونسكو) ذاتها، وهى مصر أيضًا التى عبرت على أرضها «رحلة العائلة المقدسة» وقضت بضع سنوات فيها، ومنها تزوج رسول الإسلام الذى امتدحها هى وأهلها كما لم يفعل مع غيرها، فمصر بقعة مقدسة خاطب فيها الله سبحانه وتعالى موسى الكليم فى طور سيناء، فبلد بهذا الثراء وذلك العطاء يجب أن ينظر بإمعان لعلاقاته الثقافية الدولية وأهميتها وقيمتها وتأثيرها.
ثالثًا: إن الذين لا يدركون قيمة كنوز مصر هم مجرمون فى حقها، آثمون أمام محكمة التاريخ الذى لا يرحم، ولقد عشنا سنوات طويلة تحت وهم التفوق الغربى بينما التجارب الشرقية هى أقرب إلينا، كما أن لديها حلولًا لكثير من مشكلاتنا، فالحضارة المصرية تمد يدها للحضارة الصينية، وتبتسم للحضارة الهندية، وتشد على يد حضارة بلاد النهرين، وتتطلع عبر المتوسط إلى الحضارتين اليونانية والرومانية وتفتح ذراعيها فى الدلتا مرحبة بكل التيارات الثقافية والأمواج الفكرية الوافدة إليها من كل اتجاه، إنها مصر التى لم ترفض لاجئًا ولم تنصر ظالمًا ولم تستسلم لطاغيه، وهى إذ تنزل إلى سوق التبادل الثقافى فإن لها الصدارة، لذلك كانت هى حاملة مشاعل التنوير فى القرون الثلاثة الأخيرة، كما أنها بداية صحوة الشرق مع مدافع الحملة الفرنسية، وهى التى اختزلت تاريخ الإنسانية كلها فى تعددية شخصيتها وتنوع روحها ووضوح هويتها.
إن العلاقات الثقافية الخارجية لمصر هى رصيد مهم لنا تقع مسئوليته على وزارات الخارجية والثقافة والآثار والسياحة، ويتحمل الأزهر الشريف والكنيسة القبطية مسئوليتهما فى هذا السياق، لأن، الأديان هى سلوك إنسانى فضلًا عن كونها توجيها ربانيا كما أنها تعبير حضارى ونسق ثقافى لابد أن ندرك دور مصر فيه، وليتذكر المرجفون أن فى القاهرة تسعة معابد يهودية صالحة لأداء الطقوس لم يقذفها المصرى المتحضر بحجر فى سنوات 1948 أو 1956 أو 1967 أو 1973 أو ما بعد ذلك، لأن حضارته العريقة علمته أن الأديان لله وأن الأوطان للجميع، إننى أطالب فى ختام هذا المقال بضرورة تشكيل لجنة وطنية لتنظيم شكل علاقاتنا الثقافية بالخارج، بحيث تضم خبرات من كل القطاعات والكفاءات وتتقدمها بعض الأسماء اللامعة ممن نزهو بهم ونفاخر أمام المجتمع الدولى كله .. أيها السادة إياكم والتفريط فى السلعة الثقافية، فهى بحق أغلى ما نملك وأعز ما نقدمه للإنسانية عبر العصور.
د. مصطفى الفقى;
جريدة الأهرام العدد 47944
تاريخ النشر: 13 مارس 218
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/641640.aspx