قرأت بإمعان ما كتبه صديقى المفكر المصرى المرموق د.عبد المنعم سعيد حول تطور مفهوم القومية والفهم الجديد لمعنى العروبة والنظرة الحديثة للقضايا المتصلة بهذه المسألة الحاكمة فى مستقبل المنطقة، وقد علق على ذلك عالم الاجتماع المعروف الدكتور سعد الدين إبراهيم فأيد ما كتبه الدكتور سعيد مؤكدًا سلامة التوجه الذى ذهب إليه فيما كتب، ولقد أثار الأمر لدى أفكارًا مختلطة ومشاعر متباينة أوجزها فيما يلي:
أولًا: لقد أصدرت كتابى (تجديد الفكر القومي) وهو الذى صدر عن (دار الشروق) فى مطلع تسعينيات القرن الماضي، وهو يتضمن بوضوح رؤية حديثة لمعنى القومية ومفهوم الأمة ويخرج بهما من الإطار العاطفى التقليدى الذى مضينا وراءه طويلًا ودفعنا ثمنه غاليًا، وأوضحت فى كتابى ذلك الذى صدر فى عدة طبعات أن العامل الثقافى عامل رئيسى فى مفهوم القومية، ولكن لابد من دعمه بشبكة مصالح متوازنة مع مصالح مشتركة بعيدًا عن العواطف التى لا تصمد وحدها لكى تكون رصيدًا لتفسير القومية وتحليل محتوى الأمة ولا حتى مضمون الوطن.
ثانيًا: لقد أصدرت فى العام الماضى كتابًا طبعته (هيئة الكتاب) الحكومية التابعة لوزارة الثقافة بعنوان (العروبة المصرية) ولقد جمعت فيه شتات آراء وأفكار تدور حول العوامل المعاصرة فى صناعة القومية وأكدت أن عروبة مصر ذات مذاق خاص يرتبط بعبقرية المكان والزمان والسكان وتبنيت بوضوح ذلك المسار الفكرى الذى مضيت عليه فى السنوات الأربعين الأخيرة عندما أدركت ــ مثلما أدرك غيرى ــ أن تحويل الفكر القومى إلى حدث عاطفى هو نوع من السفسطة التى تحيل الحلم إلى وهم وتجعلنا أسرى لعبارات كبيرة وشعارات رنانة دون أن نمتلك الجوهر الحقيقى والمضمون الصحيح لمعنى القومية، والحقيقة أن المراجعة الأمينة لحركة الشعوب وتطور المجتمعات وتداخل المواقف لديها يؤكد فى النهاية قراءة واحدة وهى أن الذين تحدثوا عن النظرية القومية ومفهوم الوحدة فى إطار نظرى بحت يقوم على دوافع عاطفية ونظرة مرحلية لم يكتب لهم الاستمرار والدوام إلا بالدخول فى التفاصيل العلمية لشبكة المصالح المطروحة على أطراف الحركة القومية والمعانى العميقة لذلك المزيج المشترك.
ثالثًا: إن القومية العربية تحديدًا هى واحدة من أكثر الأطروحات ثراءً وعمقًا لأنها تعتمد على عامل ثقافى واسع ورحب تغذيه لغة واضحة وتدعمه معاناة تاريخية متشابهة ولكن لابد أن نعترف أننا قد أسرفنا فى ترديد الشعارات التاريخية والتعويل على الأحاسيس المشتركة وتجاهلنا تمامًا الرؤية المتصلة بالتكامل الاقتصادى والبناء الذاتي، وأصبحنا ندور فى حلقة مفرغة من التجارب المتفرعة والتطبيقات غير المدروسة حتى كان الثمن غاليًا إذ لاتزال مأساة الانفصال فى 28 سبتمبر عام 1961 شاخصة أمام ناظرينا، ويكفى أن نتذكر هنا أن نكسة الانفصال وسقوط الجمهورية العربية المتحدة كانت هى بداية التدهور فى المشروع القومى ذاته مثلما كانت نكسة عام 1967 هى نقطة التحول التى أدت إلى تفوق المشروع الإسلامى ولو مرحليًا، إن تبنى مثل هذه الأطروحات الواقعية هو أمر يمهد بالضرورة لتحديث الفكر الوحدوى وجعله قائمًا على أسس موضوعية وليس مجرد شعارات نتبناها أو مسميات نرددها .
رابعًا: إن عروبة مصر ربما تتميز عن غيرها بما تتسم به من مسئولية أبوية عبر التاريخ، فضلًا عن أن الشعب المصرى لديه إيمان تاريخى بمصريته، وقد يقول البعض إن هذا ترديد لدعاة الفرعونية، ولكن الأمر ليس بهذه الصورة إذ أن المصرى يدرك عروبته الثقافية وأيضًا السياسية ــ خصوصًا مع العصر الناصرى وبعده ــ إلا أنه يميل إلى تأكيد ذاتيته التى ترسخت مع ثورة عام 1919 ورفعت شعار مصر للمصريين، فالعروبة الثقافية متأصلة فى مصر، ولكن العروبة السياسية وفدت إليها بقوة بعد ثورة يوليو عام 1952، ولقد اختلط مفهوم العروبة فى بعض المراحل بصبغة دينية، ولكن تطور النظرية المعروفة بنشوء وتطور القوميات قد حسمت الأمر وجعلت العقيدة الدينية علاقة مباشرة بين المخلوق والخالق، ولكنها لا تؤسس بالضرورة لأحد العوامل الرئيسية فى القومية التى قد تضم ديانات مختلفة دون تفرقة أو تمييز، ومن هنا ارتفع شعار المواطنة لكى يجعل الأمر برمته مختلفًا تمامًا لذلك فإن البحث المعاصر فى المسألة القومية إنما يستوجب تنحية العامل الديني، واعتباره مظهرًا للحياة وليس سببًا للتجمع أو التوحد وهذه تفرقة دقيقة تعطى معيار اللغة الريادة والسيادة على غيره من العوامل المكونة لمقومات الرؤية القومية الحديثة.
إننى إذ أثمن ما كتبه المفكر المصرى دكتور عبد المنعم سعيد وأيده فيه عالم الاجتماع الدكتور سعد الدين إبراهيم فإننى أؤكد مرة أخرى أن هذه الرؤية هى محل اهتمام منذ عدة عقود عندما فشلت تجربة الوحدة التى تأسست على العاطفة القومية وكاريزما الزعامة الناصرية، وأصبحنا الآن أمام خيار جديد يدعونا إلى الإيمان بأن القومية انتماء إنسانى يحكمه العامل الثقافى بالدرجة الأولي، أما العوامل الأخرى فإن المكون الأساسى لها هو اجتماعها على المصلحة المشتركة، قد يكون هناك طريق برى أو خط أنابيب أو ربط كهربائى أو مشروع مشترك بمثابة تعزيز حقيقى لجوهر القومية، ويعتبر فى هذه الحالة أفضل عشرات المرات من شعار باهت أو منطوق عفى عليه الزمن إذ إن شبكة المصالح هى المعيار الحقيقى للربط بين الشعوب فى إطار الأمة الواحدة حتى تصبح القومية مظلة حقيقية للتعايش المشترك بين أبناء الأمة الواحدة.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47965
تاريخ النشر: 3 ابريل 2018
رابط المقال: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/644854.aspx