ظللت أقرأ له لعدة سنوات معجبًا بفكره العميق مبهورًا بإلمامه الواضح بالمدارس الفلسفية المختلفة إلى أن قرأت مقالًا لصديقى وزميل دراستى الدكتور أسامة الغزالى حرب يتحدث فيه عن (صلاح سالم) الذى تخرج فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية والتحق بالأهرام، ثم أصبح كاتبًا متفردًا بقيمة كتبه ومقالاته، وقد أبدى الدكتور حرب فى مقاله إعجابًا شديدًا بذلك الشاب الواعد بصورة أصابتنى بقدر كبير من الارتياح إذ إن كاتبًا كبيرًا يشاركنى الرأى فى الإشادة بذلك المفكر المصري، ثم جاءت فرصة بعد ذلك لكى أتعرف عليه وازداد إعجابًا به بل لقد عرضت أحد كتبه فى هذا المكان ذات مرة منذ عدة أشهر، وقد أحزننى كثيرًا أنه جرى طرح اسمه مرشحًا لإحدى جوائز الدولة فى المجلس الأعلى للثقافة فلم يلتفت إليه ولم يحصل على الجائزة لأن الكثيرين لا يعرفونه فهو كاتب نخبة، فضلًا على أنه لا يجيد صنعة بيع الذات والترويج لنفسه مثلما يفعل الآخرون، ولقد تمنيت عليه أخيرا أن يجمع شتات مقالاته الأخيرة حول (الدين والحداثة والعلمانية) بين دفتى كتاب ففعل مشكورًا بل وأضاف إلى ذلك إهداء يسبق المقدمة ويظل مطبوعًا فى كل نسخه من الكتاب يقول فيه ( إلى الأب الكريم والمفكر السياسى المرموق د. مصطفى الفقى من أوحى لي، وتمنى عليَّ بضرورة وضع تلك الملفات بين جلدتى هذا الكتاب) ممهورًا بتوقيعه (صلاح)، ولقد تأثرت بهذا الكرم من ذلك المفكر الصاعد والفيلسوف الواعد، وبدأت أتجول بين صفحات الكتاب لأجد أنه قد بذل مجهودًا فى تضفير المقالات التى تعالج الموضوع الواحد حتى لا يكاد المرء يدرك أن ما فى الكتاب تجميع لمقالات جرى نشرها من قبل، وهو يقول فى أحد الفصول الأولى لذلك الكتاب القيم ( ينبع إيماننا بوجود أخلاقية إنسانية عابرة للأديان والثقافات من انتظام قوانين ضرورية موحدة وتفصيلية على غرار قواعد قوانين العلم الطبيعى وهى تظل متجانسة وتعكس خبرة المجتمعات فى صيرورتها الدائمة وحكمة التاريخ فى اضطراده الأبدي) ثم يضيف قائلًا (إن الأخلاق الوضعية المؤسسة على العقل ـــ ليست بالضرورة ـــ نقيضًا للأخلاق السماوية القائمة على الإيمان، اللهم إلا إذا كان الدين محرفًا أو كان العقل مراوغًا فالمفترض أن يكون تكامل العقل مع الإيمان سبيلًا إلى إدراك خلقى أعمق)، إن هذا الفيلسوف المصرى يقطع الطريق على أولئك الذين يقيمون حواجز مصطنعة بين الأديان ويقول إن (مارتن لوثر) أحد الآباء الكبار للبروتستانتية قد طرح سر التوبة ونظر الى التعميد والعشاء الرباني، فالمؤمن الذى (يتناول) يكون على اتصال بروح المسيح، ثم يمضى قائلًا:( إن فرويد حاول أن يدلل على أن الدين ليس حقيقة تاريخية بل وهم إنسانى صاحب المسيرة البشرية فى لحظات ضعفها وحيرتها) ، وهنا يبرع المفكر الفيلسوف (صلاح سالم) فى إبراز طبيعة التيار المادى الذى جعل (ماركس) يرى أن الدين أفيون الشعوب ووصل بفرويد إلى اعتباره وهمًا إنسانيًا، وقد تطرق الكاتب إلى العلمنة السياسية ورأى فيها ضرورة أساسية لأى مجتمع ديمقراطى لا تقوم للحرية قائمة فى غيابها فإذا العلمنة الوجودية لا تقف عند تنحية الدين عن المجال السياسى العام بل أيضًا إلى نفيه من الوجود الاجتماعى وحرمانه من دوره فى صياغة معظم القيم السائدة ثم ينتقل المؤلف فى كتابه (ملفات فكرية) إلى دراسة الدولة المدنية بين العلمانية السياسية والشمولية الإسلامية فيقول :( إن من يرى أن الشريعة هى مصدر الشرعية وليس الأمة إنما يفتح بابًا يؤدى تلقائيًا الى الدولة الدينية وفيها ينمو الكهنوت السياسى والتطرف الدينى ولذلك فإننا نؤمن بأن علمانية الإسلام تحديدًا هى علمانية سياسية وليست وجودية) ثم يدلف المفكر الشاب إلى أرض الواقع قائلًا ( لقد اختصرت مصر عبر حكم الجماعة وسقوطها المدوى بعد عام واحد ــــ عقودًا طويلة كانت مطلوبة حتى تكتسب هذه العملية زخمها الحقيقي، ولو أن الجماعة ظلت فى موقع المعارضة كما كانت طوال العقود الثمانية الماضية، أو أنها شاركت فى الحكم بنصيب محدود لا يعرضها للانكشاف الذى جرى لها أو وقعت هى فيه بتأثير رغبتها فى الاستحواذ السياسى السريع حيث أدى انفرادها بالحكم إلى وضع كل شعاراتها فى أتون الواقع كما نزع عنها قوة السحر التى غلفتها لعدة عقود حتى جرى وضعها تحت مقصلة الحقيقة، ثم يختتم المؤلف كتابه الرائع والشامل قائلًا: (وهكذا يبتعد الإنسان المعاصر أكثر وأكثر عن كونه ذاتًا مركبة ويصبح أكثر خضوعًا للبيئة المحيطة وأقل قدرة على المواجهة الفعالة لأشكال التسلط ومراكز الهيمنة التى امتدت أذرعها العنكبوتية فى شتى المجالات).
هذه شذرات من كتاب (ملفات فكرية فى الدين والحداثة والعلمانية) يطرحها الفيلسوف الجاد صلاح سالم علها تجد صداها فى أروقة الفلسفة والفكر والثقافة، وتضع صاحبها فى الموقع الذى يستحقه بين أبناء جيله، بل وتدفع به إلى مقدمة الصفوف، فهو واحد من كتاب الأهرام الدائمين ولا يمكن إغماط حقه بدعوى (أن شاعر الحى لا يطربه) وبالمناسبة فقد اعترفت به جوائز خارجية وبقى وطنه عاجزًا عن تقديره! .. تحية للابن العزيز صلاح سالم مع توقعات صادقة فى أن ينال حقه فى وطنه.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47972
تاريخ النشر: 10 ابريل 2018
رابط المقال: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/645955.aspx