إن المدقق فى الساحة العالمية يدرك أن هناك إشكالية معقدة تتمثل فى التعارض بين فكر العولمة والانفتاح الدولى ومفهوم القرية الكونية فى ظل التطورات الباهرة فى ميدان العلم خصوصًا فى مجال تكنولوجيا المعلومات وذلك كله فى جانب وبين التعددية العرقية والتعصب للهوية القومية فى جانب آخر على نحو أدى إلى تفتيت عدد من الدول وتفكيك بعضها الآخر مثلما حدث منذ انتهاء الحرب الباردة حتى اليوم، ولعل المنظور الذى يهمنى هنا ينطلق من تأثير الاختلافات الثقافية على شكل العلاقات الدولية وطبيعة الصراعات الراهنة، فأنا ممن يظنون أن الثقافة أصبحت عاملًا فاعلًا فى تحديد العلاقات المعاصرة بين الأمم والشعوب ولقد ضربت دائمًا المثل بـ(الهوة السحيقة) بين (بن لادن) وهو يتكئ على عصاه فى (تورا بورا) بينما (جورج دبليو بوش) يجلس فى القاعة البيضاوية الفخمة فى (البيت الأبيض) وهما ندان فى صراع مكتوم يمثل فيه الخلاف الثقافى بعدًا كبيرًا وبونًا شاسعًا، وقد لا نذهب بعيدًا إلى المستوى الدولى ففى المستوى المحلى أيضًا هناك فارق بين من درس فى مدارس أجنبية وتخرج فى جامعات غربية فى حواره الصامت مع ابن وطنه الذى درس فى مدرسة عامة أو دينية ولم ير الخارج فتحددت له نظرة مختلفة تجعل الهوة الثقافية بين الاثنين عاملًا للانقسام وسببًا للفرقة، إننى ممن يظنون أن البعد الثقافى يلعب دورًا حاسمًا وخطيرًا فى تحديد مسار العلاقات بين الدول المختلفة بل وفى داخلها أيضًا فضلًا عن الصراعات المستندة إلى أيديولوجيات متعارضة ويكفى أن نتأمل حوارًا بين (سلفي) متشدد وبين (مستغرب) فكرًا وأسلوبًا ونمطًا فى الحياة، إن للثقافة مدلولا واسعا فهى تتصل بالملبس والمأكل واللغة وقد تتأثر أحيانًا بالديانة أيضًا وهى عوامل قد لا تجتمع كلها ولكن يكفى بعضها لإحداث أسباب الخلاف وعوامل التباين، ولعلى أرصد هنا الملاحظات التالية:
أولًا: إننا عندما نتحدث عن الاختلافات الثقافية فإننا لا نقصد بذلك الخطاب الثقافى وحده ولكننا نقصد أساليب الحياة وطرائق المعيشة وأولويات العقل الجمعى واهتماماته المختلفة فالثقافة لها مفهوم أوسع بكثير مما نتخيل، فضلًا عن أنها تعبير مباشر عن الهوية لذلك فإن سلوك المجتمعات وشخصية الشعوب تقاس فى النهاية بذلك المفهوم الواسع للثقافة، فالثقافة لا تعنى فقط مزيدًا من المعرفة، ولا غرامًا بالقراءة، ولا نهمًا لالتهام ما هو جديد ولكنها تعنى قبل ذلك كله قدرًا كبيرًا من الوعى بالتاريخ وارتباطه بالحاضر واستعداده للمستقبل.
ثانيًا: إن الغريب فى الأمر أن بعض الثقافات تتخذ مواقف عنصرية متشددة تبدو غريبة عن المسيرة الطبيعية للحياة لندرك معها أن هناك ما يمكن تسميته للأسف (ثقافة الكراهية) بما تبثه من نعرات ذاتية ومشاعر عدائية تجاه الآخر الذى لا تعترف به أو على الأقل تنكر وجوده، وفى ظنى أن ثقافة التعصب هى واحدة من آفات العصر وهى تعبير عن اتجاه عكسى لروح الانفتاح التى يجب أن تسود بل والتسامح الذى يجب أن يزدهر.
ثالثًا: إن الأصل فى الثقافة أنها نسق حضارى يؤدى إلى التواصل لا الانقطاع ويدفع نحو التعاون المشترك من أجل المفهوم الشامل للتقدم الإنساني، وبذلك فإن ثقافة الإقصاء وتكريس الاختلافات هى ثقافة عرجاء لا تعبر عن ضمير البشر ولا روح العصر كما أنها تؤدى إلى تفاقم المشاعر المعادية لمسار الحياة الطبيعية وتنفث طاقة سلبية تؤدى إلى النزاعات والصدامات والحروب.
رابعًا: إننا كنا نتحدث من قبل عن حرب باردة سياسيًا ثم أردفنا بعد ذلك بالحديث عن حرب باردة اقتصاديًا، والآن دعنا نسمى الأمور بمسمياتها لكى نتحدث عن حرب باردة ثقافيًا فيها كثير من العبث والسطو على الآخر، ولعلى أذكر الجميع بادعاءات إسرائيل تجاه الأهرامات التى بناها قدماء المصريين وصولًا إلى (طبق الفول) ونظيره من (الفلافل) وكأنها أكلات هم أصحابها، وتلك محاولة فجة للتعبير عن الكراهية وثقافة البغض وسرقة براءات الاختراع الحضارية بدعوى التقارب الجغرافى أو الوجود التاريخي.
خامسًا: إن وسائل الإعلام المعاصرة تقرب بين الثقافات فى اتجاه وتباعد بينها فى اتجاه آخر، وهو أمر يدعو إلى القلق والتساؤل حول جدوى الشعارات المرفوعة والأفكار المطروحة حول العولمة وآثارها إذا كان يقابلها على الجانب الآخر نظرية مختلقة تتحدث عن صراع الحضارات وتفتح بابًا للمواجهة والصدام بديلًا للانفتاح والتواصل، ولذلك فإننا نظن أن إسهامات التقدم العلمى والتطور التقنى قد أصبحت هى الأخرى سلاحًا ذا حدين لأنها تنشر الرذائل بقدر ما تشيع الفضائل، إننا أمام عالم غريب كل ما فيه يدعو للترقب وتوقع الجديد.
هذه ملاحظات يسوقها كاتب هذه السطور وهو صاحب الدعوة منذ سنوات إلى عقد قمة ثقافية عربية تكون مؤشرًا لوعى عربى جديد يدرك أهمية العامل الثقافى فى عالمنا المعاصر ويستطيع أن يقدم صياغة جديدة لثقافة عربية حديثة تتوقف عن البكاء على الأطلال وترديد أشعار الحماسة حتى تستطيع أن تساير أفكار العصر واختياراته بلا عنصرية أو تعصب أو تطرف، إنها قضية حياتنا فالواقع الاقتصادى يمكن إصلاحه بحزمة من القرارات، والمسرح السياسى يمكن إعداده ببعض الرؤي، أما الظاهرة الثقافية فهى مركبة بطبيعتها تتصل بسلوك الإنسان وطريقة تفكيره وترتيب أولوياته، من هنا فإننا نقول إن الاختلافات الثقافية هى أخطر المؤشرات للتباعد بين الأمم وصنع الحواجز بين الشعوب بل وإقصاء بعض المجتمعات.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 48000
تاريخ النشر: 8 مايو 2018
رابط المقال: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/650472.aspx