تعود المؤرخون فى دراستهم للأحداث أن يركزوا على الشخوص والوقائع دون أن يلتفتوا إلى ما هو أهم وأعنى به تطور الأفكار، وذلك هو التأريخ الحقيقى لمسيرة الإنسان إذ لا يتوقف الأمر عند سرد ما جرى فالأهم هو ما طرأ على العقل الإنسانى من تغييرات وما أصابه من تطورات فالمعيار الفكرى هو الفيصل فى دراسة قضية التقدم والتخلف، ولعلنا نلاحظ أن دولًا كثيرة يتسع فيها العمران وقد يتقدم الاقتصاد وتزدهر بعض مظاهر العصر على السطح ولكن يظل العقل على حالته جامدًا وهنا يصعب الحديث عن التقدم الحقيقى وفقًا لمعايير مبتورة فلقد كان الأصل ولا يزال هو أننا نتحدث عن تطور سطحى لا يصل إلى الجوهر فإذا أخذنا بلدًا عربيًا مثل مصر بملايينها المائة فسوف نجد أن مشكلتها الحقيقية تكمن فى إعادة جدولة عقل المصرى وطريقة تفكيره وأولويات حياته وتحديد درجة احترامه للعقل والاحتكام إليه وينسحب نفس الأمر على معظم الدول فى عالمنا المعاصر فما لم يتواكب التطور المادى مع نقلات فكرية فإننا نكون أمام عجز حقيقى والذين يتحدثون عن تجربة (محمد بن سلمان) فى السعودية يجب أن يدركوا أنها صدمة حضارية تتعلق بالعقل مثلما فعل (أتاتورك) فى تركيا و(جورباتشوف) فى الاتحاد السوفيتى السابق وليس يعنى ذلك أننى أمتدح ما جرى أو أختلف معه ولكننى أتناول الأمر من زاوية منهاجية ترى فيما يحدث الجانب الأصعب فى التغيير، وقد تحدث الكثيرون عن حاجة الشعوب إلى كبار أساتذة علم النفس وخبراء العلوم السلوكية بل إن المصريين - على سبيل المثال يستمتعون بمشاهدة أستاذ الأمراض العصبية والنفسية الشهير ورئيس الجمعية الدولية للطب النفسى د. أحمد عكاشة وهو يحلل أمراض المصريين النفسية وأسباب اكتئابهم وما يمكن أن تؤدى إليه تصرفاتهم الحالية بجميع نواحى الحياة، وهنا يجب أن نرصد الملاحظات الآتية:
أولًا: إن التطور الفكرى يختلف عن التقدم التكنولوجى فالتكنولوجيا هى توظيف العلم فى خدمة الصناعة بينما التطور الفكرى هو عملية توظيف العقل فى صياغة رؤية جديدة نحو مستقبل أفضل، ولقد عكف الكثيرون فى دراسات مستفيضة لتحليل العلاقة بين الأمرين، ولا يختلف اثنان فى تأكيد أن العقل هو قاطرة المجتمعات السوية والدول الناهضة ولكن مكونات ذلك العقل هى الإشكالية الكبرى من حيث ارتباط ذلك بالتعليم والثقافة والوازع الدينى والضمير الوطنى وكلها كلمات كبيرة ولكن معانيها أكبر من هنا فإن المعضلة الحقيقية أننا نتعامل مع مفهوم النهضة من منطلق مبتور لا يمس الأفكار المؤثرة فى حياة الناس والموروثة عبر الأجيال.
ثانيًا: إن العلاقة بين الدين والدولة هى عامل أساس فى مفهوم التطور الفكرى فالإيمان هو الاعتقاد الكامل فيما هو مقبول بعقولنا المحدودة أو ما يتجاوزها لأنها مسألة تتصل بالوعى الغيبى الذى يدفع الإنسان - مهما يكن دينه للتسليم بما وقر فى قلبه وصدقه عمله وذلك أمر يؤثر تأثيرًا مباشرًا لا على نمط الحياة وسلوك الإنسان وحدهما ولكنه يمتد بآثاره إلى التركيبة العقلية والصورة الذهنية ويجعل منهما شيئًا يتطابق مع ما هو قادم فى المستقبل المنظور على الأقل.
ثالثًا: إذا كان الدين عاملًا رئيسًا فى التكوين العقلى خصوصًا لدى الإنسان المسلم فإنه يتدخل فى حياته من الميلاد إلى الوفاة مرورًا بالزواج والطلاق والميراث وغيرها من شئون الدنيا لهذا فإن الدين يحتل لدى المسلمين خصوصًا جزءًا كبيرًا من خلفيتهم الفكرية وطريقة تعاملهم مع الحياة حتى إنهم لا يجعلون المقياس لأمر ما هل هو مشروع قانونًا أم مجرم قانونًا فهم يقولون هذا حلال دينيًا أو حرام دينيًا وهنا يكون الدين قد سيطر على العقل وعلى طرائق التفكير وأصبح هو المتغير المستقل الذى تتبعه كل المتغيرات.
رابعًا: لقد قلت ذات يوم إن العقاد هو نحات الفكرة وأن طه حسين موسيقار الكلمة ومازلت أحسب أن ذلك توصيف دقيق لهاتين العبقريتين فى تاريخ الأدب العربى المعاصر بل إننى أحيانًا أتصور أن بعض قصائد شوقى أو نزار قبانى تقترب من ألوان الموسيقى بإيقاعها القوى ونغمها الصداح الذى يؤكد فى النهاية أن الإنسان ليس عقلًا فقط ولكنه مجموعة من المشاعر ترتبط بمجموعة من الأفكار وتدفع فى النهاية بالإنسان العصرى كما يريد لنفسه.
خامسًا: إننا عندما نستعرض التاريخ الحديث فى دولة معينة فإننا سوف نلاحظ النقلات الواضحة من مرحلة إلى أخرى فأنا أشعر أحيانًا أن العقل المصرى قبل 23 يوليو عام 1952 مختلف عما بعدها بل وأجازف بالقول إن الأمر ينسحب أيضًا قبل 25 يناير عام 2011 وما بعدها بل إننى أبدو مذهولًا فى بعض الأحيان للتعرف على تطورات معينة هل هى سابقة على تلك الثورة الأخيرة أم لا عندما أصبحنا أمام أسلوب مختلف فى التفكير ونظرة متباينة عند اتخاذ القرار ولأننى أطرح أمثلة معاصرة فإن كلًا منا يدرك أين يقف وفقًا لحساباته الذاتية التى قد تجعل الأمر أحيانًا يتجه نحو عملية واعية للتنقيب فى العقل واستكشاف مظاهره الجديدة تأكيدًا لما أطلقنا عليه التطور الفكرى للأفراد والجماعات والمجتمعات والدول.
هذه محاولة للتفكير بصوت مرتفع فى أهمية التركيز على التطور العقلى عند دراسة تاريخ الأمم فى مراحل نهوضها والشعوب فى فترات صحوتها وليكن واضحًا للجميع أن توثيق الرؤية الشاملة هو فى حد ذاته تأكيد لقيمة ما جرى وما يجرى لأننا لا نعيش فى فراغ ولكننا نمضى فى إطار محيط ثقافى ونظام تعليمى وخطاب دينى تشكل فى مجموعها روافد للعقل المعاصر فى فترة معينة.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 48014
تاريخ النشر: 22 مايو 2018
رابط المقال: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/652587.aspx