عندما برح مهاتير محمد موقعه كرئيس لوزراء ماليزيا انزعج الكثيرون - وأنا منهم لأن الرجل باختصار هو صانع المعجزة الماليزية ويعتبر رائدًا للتحديث لا على مستوى القارة الآسيوية وحدها بل وعلى المستوى العالمى أيضًا، وفى السنوات الأخيرة كانت المشروعات الصناعية والمراكز البحثية والمجالس العلمية تتخاطف مهاتير محمد بدعوات ملحة لإلقاء محاضرات والمشاركة فى مناقشات حول قضايا التنمية والإصلاح والانتقال بالدول التى تبدأ من الصفر، ثم تصبح بعد ذلك نموذجًا للعطاء والقدرة وقد تصعد إلى القمة، ولقد كانت تجربة مهاتير محمد رائدة ورائعة نقلت بلده الآسيوى الفقير إلى واحدة من أكثر الدول الآسيوية نموًا وازدهارًا حتى بلغ بها القمة وسط أقرانها، وعندما ترك مهاتير الحكم فى عاصمة بلاده كوالالمبور جاء من بعده واحد من تلاميذه هو أنور إبراهيم الذى لم يمكث كثيرًا فى موقعه وتركه لقضاء عقوبة السجن لعدة سنوات، ووقتها تخلى عنه مهاتير وتركه لمصيره وتعاقبت حكومات تؤدى اليمين أمام ملك البلاد حسب الدورة المعتادة للحكم الماليزى فيظل مهاتير محمد بعيدًا عن السلطة ما يقرب من خمسة عشر عامًا ثم يعود إليها بانتخابات حرة فيترك له رئيس الوزراء موقعه لأنه يواجه تهمًا بالفساد غير المسبوق فى تاريخ البلاد، ويعلن مهاتير محمد نيته فى العفو عن رفيقه القديم أنور إبراهيم ودعوته بعد فترة قادمة للعودة إلى منصب رئيس الوزراء فى سابقة غير معهودة فى الحياة السياسية والطريف فى الأمر أن مهاتير محمد يعود إلى السلطة وقد جاوز التسعين من عمره ولكن الحكمة البالغة والرؤية الرشيدة لم تبرح عقله المتوهج وفكره الوضاء، وإذا انتقلنا إلى نموذج فلاديمير بوتين الذى عرف كيف يستمر فى الحكم فى ظل ديمقراطية شكلية يتم فيها تناوب منصبى رئيس الدولة ورئيس الحكومة بحيث يعود بوتين فور انتهاء فترة (المحلل) - إذا جاز التعبير - بعد سنوات يقضيها فى رئاسة الوزراء محتفظًا بهيبته متميزًا بمكانته حاكمًا قويًا بطبيعته، ولقد استدعت ذاكرتى النموذجين الماليزى والروسى بعدما جاءت إشارة عابرة من الرئيس عبد الفتاح السيسى فى نهاية خطابه أمام المؤتمر الأخير للشباب وكأنما كان يبشر دون أن يقصد بنموذج جديد لتداول السلطة فى ظل الكاريزما الوقتية لبعض الحكام وإمكانية الوصول إلى تصور مختلف يمزج بين التمسك بكاريزما الحاكم ودوره التاريخى فى جانب وبين بعض مظاهر الديمقراطية فى جانب آخر، ولكن الأمر يقتضى الأخذ فى الاعتبار بمعيارين لا بد منهما:
أولًا: أن يتمتع النظام السياسى باستقرار حزبى مشهود له، فالحاكم الذى يريد أن يتواصل مع شعبه لابد أن يسعى عند لحظة معينة لإيجاد ظهير سياسى يسمح له بأن يواصل دوره معتمدًا على رصيد شعبى تلقائى يرتبط بحدث تاريخى أو موقف وطنى أو تجربة إنمائية ناجحة، ولا يمكن إحداث ذلك التداول فى السلطة إلا بتنسيق كامل بين أطرافه داخل تنظيم سياسى واحد، وليكن ذلك هو الحزب النشط الذى يقود البلاد سواء كان زعيمه موجودًا فى قمة السلطة أو توارى فى منصب رئيس الوزراء إلى حين وذلك لضمان الاستقرار لإنجاح الدورة التبادلية اعتمادًا على الثقة المتوافرة بين الأطراف والرضاء الشعبى العام، فضلًا عن الانتقال السلس للسلطة بين فترة وأخرى ونكون هنا أقرب إلى نموذج الجمهورية البرلمانية أو الملكية الدستورية وكلاهما نظام أثبت استقرارًا فى الحكم وقدرة على التعاطى مع المتغيرات.
ثانيًا: لا يتحقق التصور الذى أشرنا إليه دون أن يتمتع الرئيس المحورى الذى ينتقل من مقعد إلى آخر بشعبية كاسحة ورضاء كامل بين مواطنيه بحيث يسمح بذلك الالتفاف الديمقراطى حول مركز السلطة استكمالًا لمسيرة إصلاحية أو تعبيرًا عن نجاحات محققة لذلك الحاكم الذى تنتقل صفته من كلمة (الرئيس) إلى تعبير (الزعيم)، وهنا نكون أمام تجربة هائلة ذات خصوصية وطنية تقتضى درجة عالية من الموضوعية والحياد الكامل والشفافية المطلقة .
هذا خاطر عبر بخيالى وأنا استمع إلى تساؤلات دائمة حول مستقبل الوطن المصرى فى ظل احترام الدستور الجديد ودون تعديل لمواده ضمانًا لاستمرار المسيرة وكفالة نجاحها؟ لأن انتكاسها لاقدر الله يحمل مخاطر مضاعفة على هذا الوطن وشعبه الطيب وأرضه المقدسة التى تتنازعها الأطماع ويسيل لها لعاب الحاقدين، وقد وجدت فى التجربتين الماليزية والروسية بعضًا من الأفكار الجديدة وإن كان القياس عليها صعبًا لأن لكل تجربة خصوصيتها ورموزها وشخوصها، ولكن يبقى من تلك النماذج التى تحدثنا عنها أنها تفتح أبوابًا للتأمل والتحريض على التفكير وكلها تؤدى فى بلادنا إلى مطلب سياسى واحد وأعنى به ضرورة تقوية الحياة السياسية المصرية ودعم الأطر الحزبية لأنه لا مستقبل لوطن فى غياب حياة سياسية جادة وملهمة تأخذ بيد البلاد والعباد إلى شاطئ الأمان، وحسنًا اختار مؤتمر الشباب الأخير مسألة تقوية الحياة الحزبية ودعم الساحة السياسية شعارًا له إذ أنه لا بديل عن ذلك بل إننى أظن أن جزءًا كبيرًا من مشكلاتنا فى العقود الأخيرة قد نجم عن ضعف الحياة السياسية وقصور الأحزاب عن أداء دورها كمدارس لتربية الكوادر المطلوبة لتحقيق مستقبل أفضل لوطن يستحق ذلك.
د. مصطفى الفقى;
جريدة الأهرام العدد 48021
تاريخ النشر: 29 مايو 2018
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/653553.aspx