دعانى الأستاذ الدكتور طارق شوقى، وزير التربية والتعليم والتدريب الفني، لحضور حفل سحور تسبقه مقدمات تحليلية وشروح وافية حول موضوع الفهرس العربى الموحد الجديد، ورغم الجفوة التى تفصل بينى وبين تكنولوجيا المعلومات بحكم التكوين الجيلى والمعدل العمرى إلا أننى فهمت الكثير فى تلك الأمسية وتعلمت ما ليس لى به علم، وأدركت أن الدنيا قد تغيرت وأن العالم الذى كنا نعيش فيه لم يعد هو ذلك العالم القادم للأجيال الجديدة، فالتعليم يختلف عن التعلم وجيل (جدول الضرب) لم يعد له مكان بعد هذه العلوم الحديثة والدراسات المتقدمة، والذى شدنى أكثر هو تطويع تلك التحولات العلمية ذات الطابع النظرى لخدمة الحياة العملية والواقع التطبيقى وهو أمر يفتح آفاقًا واسعة أمام البحث العلمى ويبنى مجتمع المعرفة الحقيقى، وقد رأيت أن طارق شوقى يبشر بنقلة نوعية فى مستقبل التعليم المصري، نقلة لا تقف عند حدود الكم ولكنها تتجاوز ذلك إلى مفهوم الكيف فلقد كنا نتوهم دائمًا أن النهضة التعليمية القادمة تأتى بزيادة عدد الفصول ونوعية المدرسين، ولكن الأمر تجاوز ذلك إلى تغييرات كيفية فى العملية التعليمية نفسها، وتنطلق مهمة التعليم فى المستقبل من عدد من المحاور نشير إليها فيما يلي:
أولًا: تهدف كل الدراسات الجديدة فى تطوير التعليم إلى توسيع دائرة المتاح أمام الأجيال القادمة، فالإتاحة هى الهدف الذى يسعى لأن تكون المعارف فى متناول الجميع وتتحول إلى رصيد يلازم كل شخص فى جهاز صغير ربما يكون هو وسيلة الاتصال التى يحملها الفرد أينما ذهب، إن السعى نحو (الإتاحة) الكاملة هو هدف عزيز تهتم به دوائر البحث العلمى وأروقة العلوم المختلفة.
ثانيًا: تبدو القيمة الحقيقية لميلاد الفهرس العربى الموحد هى أنه لن يحتوى من المادة العلمية إلا ما يصل إلى مستوى معين فإذا قل عن ذلك فإنه يلفظه وبذلك نضمن تلقائيًا جودة التعليم نتيجة نقاء المادة العلمية ومستواها الرفيع ،وهو أمر يحدث انقلابًا حقيقيًا فى المعرفة بمعناها الواسع ولا يسمح بأن يجور الكم على الكيف أبدًا، ولعل الحفاظ على المستوى الأكاديمى المتميز هو الضمان الأهم لجودة التعليم.
ثالثًا: لقد ظللت لأكثر من ساعتين أتابع ما يقال على لسان الوزير أو على الشاشة المضيئة أمامى لكى أتأكد من أن المستقبل يتوافق مع شيوع (نظرية وحدة المعرفة) التى تثبت يومًا بعد يوم صلاحيتها الدائمة لاقتحام المستقبل، فالتقسيم التقليدى بين العلوم والآداب والدراسات التطبيقية لم يعد أمرًا مقدسًا إذ أن التداخل بين الفروع المختلفة والتزاوج بين المعارف المتعددة قد خلق شبكة جديدة لم يكن لها وجود من قبل، وذلك لأنها تقوم على وعى كامل باحتياجات البشرية ونواحى النقص التى قد يعانى منها المستقبل قريبه وبعيده، إن (وحدة المعرفة) تتناسق تمامًا مع الأساليب الجديدة فى التعلم ولا أزعم أنها سوف تصنع الإنسان الموسوعى ولكننى أدعى أنها سوف تبشر بمجتمع المعرفة على نحو متكامل وبصورة دائمة.
رابعًا: لقد مر بخاطرى وأنا استمع إلى الوزير العالم المتجدد فكريًا أننا أمام فصل جديد من فصول المعرفة يأخذ أساسًا بمبدأ الاعتماد على الذات ولا يتراجع عنه ولا يتوقف دونه، فالتعليم الجديد يبشر بعملية بناء ذاتى لا يحتاج فيها إلى قوى داعمة أو عوامل مساعدة، فالتعلم هو مرادف لمعنى التعليم الذاتى الذى يسعى فيه الفرد للحصول على المعلومة واقتنائها واختزانها واستخدامها عند اللزوم، ولذلك فإننى أدهش كثيرًا عندما أتعامل مع أحفادى فى أمر يتصل بأحد روافد المعرفة إذ اكتشف أنهم أسبق بكثير مما كنا عليه فى أعمارهم كما أن تعاملهم مع الآلة الإلكترونية يشير بقوة إلى تفوق كاسح عما نحن فيه، بل إننى أحيانًا أصاب بنوبة اكتئاب سببها العزلة عن المعارف الجديدة والشعور بأن الاتجاه إليها يصبح نوعًا من المحاولة المتأخرة التى لا تؤدى إلى نتيجة محققة. خامسًا: يبدو من الملحوظ من تأمل الأساليب الجديدة فى التعلم أننا سوف نكون أقدر على التأقلم مع الواقع ومجاراة حركة التاريخ وتطور الأشياء كما لم يحدث من قبل، إذ أن سرعة دوران الاكتشافات العلمية والاختراعات الإلكترونية قد أصبحت تهيئ لأجيال من الباحثين أساليب عصرية تؤدى بهم إلى ما هو أفضل وتدفعهم دفعًا نحو معالجة المشكلات الحالية دون التحليق النظرى أو السفسطة التنظيرية بلا جدوى أو طائل.
لقد اكتشفت أن وزير التعليم - وقلت ذلك فى كلمتى أمام اللقاء - يحارب معركة شرسة ضد من يقفون فى طريقه لأنهم لا يعلمون ما يمضى إليه، والإنسان بطبيعته عدو لما يجهله كما أن تاريخ التعليم المصرى قد خلق شبكة معقدة من المصالح بعضها يتصل بطباعة الكتب والبعض الآخر بتأليفها والبعض الثالث بداء الدروس الخصوصية الذى استشرى ودمر ميزانية الأسرة المصرية وحشد المليارات فى جيوب من يتاجرون بالتعليم خارج مؤسسته الوطنية، ومنهم كثيرون غابت ضمائرهم واستحلوا لأنفسهم ما فى جيوب الفقراء الذين لا يضنون بما يملكون من أجل تعليم أولادهم، كما أن المدرسة قد تحولت إلى مؤسسة إدارية لا يأتيها الطلاب إلا لملء استمارات الامتحانات أو سحب أرقام الجلوس أو حضور الاختبارات المختلفة، ولأن حجم المشكلة التعليمية فى مصر كبير فإن الحلول التقليدية لا تجدى معها وقد جربناها جميعًا بلا جدوى حتى تخرجت أجيال وهى محدودة المعرفة قليلة الحظ من العلم، غير قادرة على إيجاد مصادر للتشغيل خارج الأطر التقليدية للوظيفة الحكومية، لأن فلسفة (دانلوب) فى التعليم كانت تقوم على تخريج أعداد من الموظفين لخدمة الجهاز الإدارى للدولة دون الأخذ فى الاعتبار احتياجات المستقبل ونوعية التطور حتى قال المصريون (إذا فاتك الميرى .. اتمرغ فى ترابه) .. لقد كانت أمسية رائعة تعلمت فيها الكثير، فشكرًا للوزير الذى دعانى باتصال هاتفى منه وأفادنى كثيرًا بشروح ضافية له.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الاهرام العدد 48035
تاريخ النشر: 12 يونيو 2018
رابط المقال: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/655664.aspx