فى اللقاء السنوى لمجلس أمناء مكتبة الإسكندرية برئاسة الرئيس عبد الفتاح السيسى دخل الرئيس فى حوار معمق مع الحاضرين، وهم مجموعة من رؤساء الدول والحكومات السابقين حول قضية التعليم فى مصر، ولقد بدأ الحوار بسؤال من الرئيسة السابقة لجمهورية فنلندا، وهى من أكثر الدول الأوروبية اهتمامًا بالتعليم ونجاحًا فى برامجه، ولقد كشف الرئيس السيسى فى ذلك الحوار عن مخططه لتوأمة كل جامعة حكومية مصرية بجامعة مرموقة من الخمسين جامعة الأولى فى التصنيف العالمي، وأضاف الرئيس أن بعض هذه الجامعات الأجنبية يشترط الحصول من الجامعة المصرية النظيرة على مبلغ يصل إلى خمسين مليون دولار، وتساءل الرئيس بنبرة حاسمة أمام رؤساء الدول والحكومات السابقين هل تريدون دعم التعليم فى بلادنا والدول المثيلة باعتبار أن التعليم هو الضربة الأولى على وجه الإرهاب الكئيب الذى يهددنا جميعًا بلا استثناء أم أنكم لا تتحمسون لذلك وتضعون العراقيل المادية حائلًا دون التعاون البناء فى مجال التعليم والتدريب والبحث العلمي؟ ولقد رأيت فى عيون الرؤساء السابقين قدرًا كبيرًا من الاهتمام والتجاوب مع كلمات رئيس مصر فى ذلك اللقاء السنوى لمؤسسة ثقافية عالمية على أرض مصرية تشرف بتبعيتها المباشرة لرئيس الدولة، وقد أردت من هذه المقدمة الكاشفة أن أوضح أهمية التعليم ودور الجامعات فى مستقبل مصر كما يراها رئيس الدولة فى مستهل فترة ولايته الثانية، والتى يسعى إلى أن يركز فيها على بناء الإنسان بعد أن قطع شوطًا كبيرًا فى المرحلة الأولى لاستكمال البنيان أى أنه ينتقل من مرحلة الـ Hardware إلى مرحلة الـ Software وهى مرحلة أكثر صعوبة وأشد خطورة، إنها تعنى مواجهة شاملة لمكونات الإنسان المصرى من تعليم وثقافة وتدريب وبحث علمى إلى جانب شئون الصحة ومشكلة العشوائيات كل ذلك فى إطار إعطاء الشباب صاحب المستقبل الأولوية دائمًا، ولعل نظرة الى أحوال الجامعات المصرية الحكومية تعيننا على استشراف المستقبل من خلال تطورها وتنامى دورها عبر الملاحظات التالية:
أولًا: دعنى أعترف ـــ وقد كنت رئيسًا لجامعة خاصة ذات طابع أهلى لا يهدف إلى الربح ـــ بأن الجامعات الحكومية المصرية مازالت هى أعمدة الخيمة فى النظام التعليمى فى مصر، كما أننى أضيف إلى ذلك الاعتراف أن معظمها يرقى إلى مستويات مشرفة فى المجالات الحديثة للعلوم العصرية ولأننى أرى مباشرة جهود بعض تلك الجامعات وأناقش رسائل جامعية فى بعضها الآخر، كما أن مكتبة الإسكندرية تحتفظ بأكثر من عشرين (سفارة معرفة) لدى تلك الجامعات المصرية بدءًا من القاهرة وعين شمس والإسكندرية وحلوان فإننى أرى فيها طفرة واضحة فى النواحى العلمية وليس صحيحًا أن مستوى التعليم فيها قد انخفض، ولكن التفسير الصحيح لتدنى مستويات الخريجين إنما يأتى من زيادة الأعداد، وتلك قضية وطن وليست مشكلة الجامعات وحدها.
ثانيًا: إن الجامعات الإقليمية من المنصورة والزقازيق إلى طنطا وأسيوط وصولًا إلى جنوب الوادى مرورًا بجامعات تنتشر فى محافظات الجمهورية تبدو لى مفاجأة سارة أحيانًا فعندما زرت (مركز غنيم) التابع لجامعة المنصورة ظننت أننى فى أحد المراكز الطبية الأوروبية المتقدمة، وعرفت لماذا قال لى أستاذ المسالك النمساوى (إنك مصرى من بلد محمد غنيم الذى نرسل إليه أساتذتنا ليتدربوا لديه) فلدينا وحدات علمية مشرفة متناثرة وسط جامعاتنا المختلفة بما فى ذلك كليات جامعة الأزهر العلمية التى يتفوق بعضها فى فروع للبحث تدعو إلى الارتياح، ويكفى أن كلية اللغات والترجمة تقدم واحدًا من أعلى مستويات تعليم اللغات الأجنبية بين نظيراتها فى كليات الجامعات المصرية الأخري، ولقد ناقشت أخيرا إحدى رسائل الدكتوراه فى جامعة دمنهور، وأدهشنى كثيرًا ذلك المستوى الرفيع والإحكام المنطقى لتلك الرسالة التى كان يدور موضوعها حول (ثقافة الفوضى ومجتمع المخاطر) ولذلك فإننى أشهد أن جامعاتنا الإقليمية تبدو منارات علمية ساطعة تحمل ومضات مضيئة قد لا نعرف عنها الكثير.
ثالثًا: إننى أزعم صادقًا أن فى جامعاتنا الحكومية أساتذة يقفون فى مصاف العالمية لفروع تخصصاتهم، ولو أنه أتيح لهم ما أتيح لعالمنا الراحل أحمد زويل لوجدنا لدينا عشرات من حملة جائزة نوبل عبر السنين، وأنا أشهد بتفوق بعض هؤلاء الأساتذة المتناثرين فى جامعات الدلتا والصعيد وهم قانعون بما لديهم من إمكانات متواضعة، ولكنهم يقدمون أبحاثا ودراسات ترقى إلى مستوى النشر فى الدوريات المتخصصة والموثقة عالميًا.
رابعًا: يجب ألا ننسى أن كل الأسماء ذات البريق فى التخصصات المختلفة قد تخرجت من جامعاتنا الحكومية، كما أن تلك الجامعات تقذف بين حين وآخر بعبقريات رائعة تدهش أمامها الجامعات الأجنبية عندما تستقبل أستاذًا زائرًا من مصر أو حتى طالبًا واعدًا للدكتوراه، ويكفى أن نتذكر أن بكالوريوس الطب المصرى كان يرقى تمامًا إلى مستوى بكالوريوس الطب فى بريطانيا دون الحاجة إلى شهادة معادلة حتى مطلع سبعينيات القرن الماضى فى وقت كانت كليات الطب البريطانية تطالب خريجى كليات الطب الهندية بضرورة الحصول على شهادة معادلة، لأن مستواهم فى ذلك الوقت لا يرقى لمستوى الطبيب البريطانى والطبيب المصري.
إننى أتطلع إلى جامعاتنا الحكومية، وأيضًا جامعاتنا الخاصة التى تمضى فى فلك الدولة المصرية واحتياجاتها المختلفة لكى نتقدم نحو المستقبل بخطوات ثابتة، ويجب أن نضع فى الاعتبار أن تقدم التعليم الجامعى هو الذى يفتح قنوات جديدة أمام المستقبل، ويمثل أبرز معالم القوى الناعمة للدولة المصرية، بل ويشير بدرجة كبيرة إلى مكانتها الإقليمية ودورها فى عالمنا المعاصر.
د. مصطفى الفقى;
جريدة الأهرام العدد 48063
تاريخ النشر: 10 يوليو 2018
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/659969.aspx