عندما وطأت قدماى أرض مطار (هيثرو) لأول مرة عام 1971، تفتحت مدارك شاب فى منتصف العشرينيات على عالم مختلف تشعر فيه بقيمة الفرد ومعنى الحرية وأهمية حقوق الإنسان، وكنت أتجول فى شوارع مدينة الضباب فى ذلك الوقت من شهر سبتمبر وكأنما كنت أبحث عن المدينة الفاضلة التى قرأت عنها ولم أصل إليها، وقد بهرنى تنظيم الحياة وأسلوب التعامل بين الناس وفقًا لقواعد متفق عليها دون حاجة إلى كتابة عنها أو تسجيل لها، ولقد كنت قادمًا من القاهرة الناصرية بمبادئها التحررية وأفكارها الثورية رغم رحيل الزعيم الذى قاد الثورة فى مثل هذه الأيام منذ ثلثى قرن تقريبًا تحولت فيها مصر تحولات جذرية وتغير وجه الحياة على أرضها بشكل غير مسبوق كأنما ولدنا فى الثالث والعشرين من يوليو عام 1952، وبدت بريطانيا أمامنا عدوًا كارهًا للثورة وقائدها على النحو الذى تجلت به فى جريمة العدوان الثلاثى كما نسميه وطنيًا أو حرب السويس كما يطلقون عليها دوليًا، وعندما تعرفت على المفاهيم الجديدة خلال عملى فى القنصلية العامة ثم السفارة ودراستى بجامعة لندن أدركت أن لكل أمر وجهين على الأقل كما آمنت أن الحياة طريقة قبل أن تكون حقيقة، وأدركت عن قرب أن البريطانى لا يحب ولا يكره ولكنه يحترم البعض ويستخف بالبعض الآخر ولم تغب عن ذاكرتى أبدًا قصة يوم ذهبت فيه إلى (مطار هيثرو) لاستقبال زميلة دراستى هدى جمال عبد الناصر بعد أن وصلنى خطاب فى الحقيبة الدبلوماسية من زوجها زميلنا الأستاذ حاتم صادق يخبرنى فيه بقدومها ويوصينى أنا وزوجتى بالاهتمام بها فقد كانت قادمة إلى مدينة (إكسفورد) لجمع مادة علمية إعدادًا لدرجة الدكتوراه التى حصلت عليها فيما بعد، وعندما اتجهت بالضيفة العزيزة من باب الطائرة إلى ضابط الجوازات وكان ذلك بعد رحيل الرئيس عبد الناصر بعامين بادرنى الضابط البريطانى وهو يتصفح جواز سفرها الدبلوماسى قائلًا: هل تمت هذه السيدة بصلة للرجل العظيم نفسه؟ - فقد رأى اسم جمال عبد الناصر مكتوبًا- فقلت له: نعم يا سيدى إنها ابنته الكبرى، فطلب منا التمهل قليلًا ودخل إلى المكتب وخرج منه ليضع خاتم الدولة وعليه إقامة مفتوحة للزائرة الكبيرة ابنة الزعيم الذى تمت على يديه تصفية الإمبراطورية البريطانية، والبريطانيون ـ شأنهم فى ذلك شأن العالم المعاصر ـ لا تحكمهم المشاعر ولكن تحكمهم قيمة البشر وأوزان الدول، وقد كنت فى زيارة أخيرة إلى لندن التى لا تتغير أبدًا، فالشوارع كما هى وطرز المبانى على ما هى عليه باستثناء بعض التغييرات الطفيفة التى طرأت على منطقة وسط المدينة فى محاولة للتحديث جنبًا إلى جنب مع النمط التقليدى والمبانى القديمة كالواجهات التى تظل كما هي، وبرغم رطوبة الجو وارتفاع الأسعار ـ خصوصًا بالنسبة للقادم من مصر بعد أن تشكلت علاقة جديدة بين الجنيه المصرى والجنيه الاسترليني- إلا أننى استمتعت شخصيًا بأن أمشى فى شوارع أعرفها كأهلها وأن أطوف بمشاهد عرفتها منذ نصف قرن تقريبًا حيث التقاليد البريطانية التى لا تتغير كثيرًا، ثم وجهت إلى المستشارة الثقافية د.ريم بهجت الدعوة لإلقاء محاضرة عامة باللغة الإنجليزية على تجمع ضخم من البريطانيين والمصريين فى مقر المكتب الثقافى المصرى فى واحد من أروع الأبنية وسط المدينة، وأدهشنى كثرة عدد الحاضرين ونوعياتهم، فضلًا عن طبيعة الحوار ومستوى الأسئلة، وامتد اللقاء لأكثر من ساعتين جرى خلالهما نقاش جاد حول مصر وأهميتها والطريق الذى تسلكه حاليًا من أجل تدعيم اقتصادها وإحياء دورها وتعزيز مسيرتها الدولية والإقليمية، ولقد لفت نظرى أن الحاضرين يعرفون من تفاصيل ما يجرى فى مصر على نحو يؤكد أهمية هذا البلد العظيم مهما أحاطت به المشكلات أو حاصرته الأزمات فهى دائمًا صامدة صمود الأهرامات، سلسة كانسياب مياه النيل القادم إليها من منابعه لتحتضنه الدلتا بعد مسيرة طويلة، وقد حضر المحاضرة عدد من كبار المثقفين البريطانيين من أصل مصرى والقنصل العام فى لندن وأساتذة الجامعات ورجال البنوك وسفراء سابقون لبريطانيا فى مصر، فضلًا عن أصدقاء مكتبة الإسكندرية من أبناء المملكة المتحدة، وقد كان اللقاء فى القاعة الكبيرة التى تحمل اسم جمال عبد الناصر فى ذلك البيت التاريخى الذى تمتلكه مصر منذ ما يزيد على ثمانين عامًا وقد عاش فيه الملك فاروق وهو ولى للعهد فى فترة تدريبه وتربيته بإشراف أحمد حسنين باشا والفريق عزيز المصرى مع اختلاف اسلوب التربية بينهما تجاه الأمير الشاب الذى لم يكمل دراسته، وعاد للوطن ليتم تنصيبه ملكًا بعد رحيل والده الملك فؤاد الأول، ولقد أحاطت بى كل هذه المعانى من العصر الملكى إلى زعامة عبد الناصر إلى حنكة السادات لكى اكتشف أن ذلك المبنى يكاد يكون تلخيصًا معماريًا للشخصية المصرية وسط العاصمة البريطانية. إن صيف أوروبا لا يقف عند حدود الريفيرا الفرنسية أو الإيطالية ولا جولات اليخوت على موانى البحر المتوسط، ولكنه يتجاوز ذلك إلى المدن الكبرى وفى مقدمتها باريس عاصمة النور ولندن التى كانت مدينة الضباب وروما المدينة المتحف عبر العصور، وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية هى مركز التقدم العلمى والتقنى فإن أوروبا كانت ولا تزال مركز الإشعاع الإنسانى للحضارة الحديثة وقد لا تكون هى الأكثر تقدمًا على الجانب التكنولوجى، ولكنها تبقى الرائدة على المستوى الحضارى بمعناه التاريخى المتواصل، ولقد برحت لندن وأنا أقرأ فى الصحف أن الإمام الأكبر شيخ الأزهر سوف يلتقى ملكة بريطانيا فى اليوم التالى ورددت بينى وبين نفسى أن الحضارة العربية الإسلامية تعايشت دائمًا مع الحضارة الأوروبية المسيحية لأن بينهما مشتركا ثقافيا أكثر مما بينهما من اختلاف مرحلي!
د. مصطفى الفقى;
جريدة الأهرام العدد 48077
تاريخ النشر: 24 يوليو 2018
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/663062.aspx