أنتمى إلى نوعٍ من البشر إذا طال الحديث أمامه وأصبح رتيبًا مُكررًا فإننى أغلق عينى يقظًا، حيث يبدو لمَنْ يرانى أننى نائمٌ، والحقيقة أننى أتابع كلَّ ما يدور حولى وأنا نصف نائم، حيث إذا سألنى مَنْ يتحدث معى عن رأى لى أو موقف اتخذته فإننى أجيب فى وضوحٍ كاملٍ ويقظةٍ تامةٍ وبمعلوماتٍ وافيةٍ، وهذا أمرٌ يؤدى إلى دهشة الأصدقاء والزُّملاء دائمًا، ولقد أصابتنى تلك العادة منذ سنوات الطُّفولة، وقد عرفت شخصيات لديها نفس الظَّاهرة النَّادرة، ولعلى أذكر هنا اسم الدكتور «يوسف والى» نائب رئيس الوزراء الأسبق الذى كان يبدو أمامنا فى جلسات مجلس الشَّعب وكأنه نائمٌ فى سُبات عميق بينما هو كامل اليقظة، مُتقد الذِّهن، حاضر البديهة، إنها منحة إلهيَّة أحمده عليها، ولقد تفنن خصومى فى استخدام هذه الظَّاهرة فى محاولة التَّشهير بى أحيانًا وقد التقط لى بعض المُصورين الصَّحفيين صورًا فى البرلمان وأنا أغفو يقظًا كالمعتاد، وكان خصومى فى الانتخابات البرلمانيَّة يرفعون هذه الصُّور فى محاولة للنَّيل منى، ولكنها كانت تؤدى إلى العكس.
وأنا أتذكر أن السَّفير البريطانى الأسبق قد قال لى ذات مرة إن لديهم فى مجلس العموم مُربعًا خاليًا يغفو فيه الأعضاء عند الضَّرورة لأن جلسات المجالس النيابيَّة تمتد أحيانًا لساعات طويلة ويصبح الاسترخاء لعدة دقائق أمرًا يُجدد الحيويَّة ويجعل المرء قادرًا على التَّفكير السَّليم، وأتذكر أننى كنت مُرافقًا للرئيس الأسبق حسنى مبارك فى زيارة له إلى مدينة أسيوط، وبينما كان يجلس على المَنَصَّة فى القاعة الكبيرة أمام مئات الحاضرين من الشَّخصيات العامَّة والمهمَّة قد قطع حديثه فجأةً ونظر إلىَّ فى الصف الأول أمامه قائلاً: إن «مصطفى الفقى» قد نام، فانتصبتُ واقفًا بين ضحكات الحاضرين وتصفيقهم المُتواصل، ثم سألنى الرئيس عن أحد الأرقام فى ميزانية الدولة فوجدنى جاهزًا تمامًا، فصفَّق الحاضرون مرَّة ثانية، ومع ذلك شعرتُ يومها بخجلٍ شديدٍ وأصبحت هذه القِصَّة إحدى نوادر مؤسسة الرِّئاسة فى ذلك الوقت.
وفى عام 2017 كتب صديقى وزميل دراستى «ممدوح عباس» رئيس نادى الزمالك الأسبق تغريدة على موقع التواصل الاجتماعى «تويتر»، شاعت فى كل الأوساط قال فيها: «أحمد الله أن صديقى مصطفى الفقى ليس من مواطنى كوريا الشمالية، وإلا لكان قد جرى إعدامه منذ زمن»، وذلك تعليقًا على ما أمر به الرئيس الكورى الشَّمالى من إعدام أحد القادة البارزين فى الحال؛ حيث لاحظ أنه قد غلبه النُّعاس أثناء الاجتماع، بينما لا يجب أن يغفو أحد فى حضرة الزعيم الكورى الأوحد، وبالفعل تم إعدام ذلك المسئول لأن غفوته تعنى نقص الاهتمام بما يقوله الزعيم الكبير، ولقد حكى لى دبلوماسى زميل أنه كان يعمل فى السِّفارة المصريَّة فى فرنسا، وأن المشير الراحل عبدالحكيم عامر قد زارهم، وفى أحد اللقاءات الكبيرة غفا المشير عامر لدقائق قليلة وهو على المَنَصَّة، وذلك بفعل الإرهاق الشديد الذى كان يشعر به نتيجة الترتيبات الطويلة لتلك الزيارة المهمَّة، وقد كان لقاؤه مع الطُّلاب المصريين فى واحد من الحوارات المهمَّة بينه وبين مسئول كبير من أبناء وطنه فى الخارج، إننى أقول ذلك الآن وأنا أتذكر من أسفارى مع السيد عمرو موسى -عندما كان وزيرًا للخارجية وكنتُ مساعدًا له- أنه كان يقتنص بعض لحظات الرُّكود فى المُؤتمرات الكبيرة ليلبس نظارةً سوداء تسمح له بأن يغلق عينيه لدقائق تُجدِّد النَّشاط وتريح الذَّهن، وقد كُنَّا نسمى تلك النظارة السوداء (البيجامة)؛ تعبيرًا عن ارتباطها بالنوم، ولقد سمعتُ عن السِّياسى البريطانى الداهية «ونستون تشرشل» أنه كان يمارس عادة الاسترخاء نومًا أثناء الجلسات المهمَّة بسبب الإرهاق الشَّديد والضُّغوط الكبيرة على بلاده فى غمار الحرب العالمية الثانية، خصوصًا عندما كان يخاطب الشَّعب البريطانى قائلاً: «لا يوجد لدىَّ إلا مزيد من العرق والدموع والدم، ولقد قرأنا فى سيرة نابليون بونابرت أنه كان ينام وهو يمتطى حصانه من أجل دقائق يختلسها فى غمار المعارك وأثناء الحروب».
إننى سعيدٌ بأن وهبنى الله القدرة على الاسترخاء فى أىِّ مكان إذا سمحت بذلك الظُّروف، شرط ألا يؤثر ذلك على يقظتى الذِّهنية وقدرتى على التَّفكير، وأتذكر أننى كنت أحضر اجتماعًا مُصغرًا لقادة الأحزاب السِّياسيَّة مع الرئيس الأسبق «مبارك»، وجاء مقعدى إلى جانب الفقيه القانونى الرَّاحل د.وحيد رأفت، الذى جاء نيابة عن فؤاد باشا سراج الدين يومها، وعندما لاحظ أننى أغفو من وقت لآخر قال لى رحمه الله ضاحكًا: «أينام الناس فى حضرة الملوك والرؤساء؟!»، فقلتُ له: «يا أستاذى العظيم إنهم ملوك ورؤساء ولكن النوم سلطان فوق الجميع».
د. مصطفي الفقي;
مجلة 7 أيام العدد 270
تاريخ النشر: 20 مارس 2018
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%b9%d9%86%d8%af%d9%85%d8%a7-%d8%a3%d8%ba%d9%81%d9%88-%d8%a3%d8%ad%d9%8a%d8%a7%d9%86%d9%8b%d8%a7/