مع السنوات الأولى لبداية القرن العشرين تبادلت صحيفة «اللواء» ورئيس تحريرها عبد العزيز جاويش وصحيفة مصر القبطية حوارًا ساخنًا وصل إلى حد التراشق الطائفى وكان دليلًا على أن البلاد تدخل مرحلة من الريبة لا يبدو الاحتلال البريطانى بعيدًا عنها والهدف منها هو إذكاء نار الفتنة بين المسلمين والمسيحيين فى مصر وتطبيق سياسة (فرق تسد) التى برع فيها المحتل الأجنبي، ولقد نجحت سياستهم مرحليًا على نحو أودى بحياة بطرس باشا غالى رئيس الوزراء عام 1910 والذى ظل يلفظ أنفاسه لعدة ساعات، وعندما حضر الخديو عباس حلمى الثانى ليرى رئيس وزرائه وهو يحتضر فى المستشفى ردد رئيس الوزراء فى تواضع وطيبة: هذا كثير علينا يا أفندينا، وكأنما يودع الحياة برقة وأدب بعد رصاصات أطلقها عليه إبراهيم ناصف الوردانى طالب الصيدلة الذى كان يدرس فى الخارج قبل ذلك، ولقد تبع ذلك توتر عام فى البلاد فانعقد المؤتمر القبطى فى أسيوط الذى تقدم بعدة مطالب وتبعه بفترة وجيزة مؤتمر إسلامى انعقد فى مصر الجديدة بدعوة من (الناضورى باشا) وأصبحنا أمام فتنة عامة تبدو دخيلة على الوطن المصرى إلى أن ظهر وكيل الجمعية التشريعية وهو فلاح حقوقى ينتمى إلى فئة أعيان الريف أدمن لعب الورق فترة من حياته، بل وكان خطيبًا فى احتفال توديع المندوب السامى البريطانى (اللورد كرومر)كما أنه زوج ابنة سياسى قضى مدة فى رئاسة الوزراء تعد من أطول الفترات وهو مصطفى باشا فهمي، والشخص الذى أعنيه هنا هو زعيم ثورة 1919 سعد باشا زغلول الذى شهدت حياته تحولًا جذريًا حتى أصبح الرمز الحقيقى للحركة الشعبية والوحدة الوطنية وقاد واحدة من أعظم ثورات مصر وأعنى بها ثورة عام 1919، وعندما اجتمع بعض الأقباط برئاسة (جورج خياط) فى نادى رمسيس قرروا ضرورة المشاركة فى حركة سعد زغلول - إذا جاز التعبير - وذهبوا إليه قائلين: نحن معك لأننا جميعًا مصريون، فقال لهم: لكم ما لنا وعليكم ما علينا، وكان ذلك تأكيدًا حقيقيًا لمعنى المواطنة التى نتحدث عنها الآن، وقد شهدت تلك الفترة ومضات مضيئة للوحدة الوطنية الحقيقية حتى إن (عريان سعد) تطوع لاغتيال يوسف وهبة باشا رئيس الوزراء القبطى للمرة الثانية فى تاريخنا الحديث حتى لا تثور فتنة، محبذًا أن يكون القاتل والقتيل من ديانة واحدة وأطلق عليه رصاصاته وهرب إلى داخل مقهى ريش الذى نعرفه الآن فى شارع طلعت حرب (سليمان باشا سابقًا)، وكان لتجليات الوحدة الوطنية ما أعلنه واصف بطرس غالى من أنه يعفى الأمة من دماء أبيه سعيًا نحو وحدة الوطن مهما يكن الثمن، وظهر مكرم عبيد باشا خطيب الثورة ورفيق سعد زغلول والنحاس لكى يلهب الحماس بلغته الرائعة وخطبه الرصينة فهو القائل: (اللهم يارب المسلمين والنصارى اجعلنا جميعًا للوطن أنصارًا)، وعندما دب الخلاف بينه وبين النحاس وأصدر مكرم كتابه الأسود لم يخرج معه من الوفد كل الأقباط ولكن تبعه بعض المسلمين أيضًا واحتفظ النحاس داخل الوفد بمجموعة كبيرة من الأقباط إذ لم يكن العمل السياسى والحزبى مرتبطًا بالديانة ولكن بالانتماء الوطنى وفقًا لرؤية أصحابها، وجاء كامل صدقى باشا القبطى لكى يكون وزيرًا فى وزارة النحاس بديلًا للمجاهد الكبير مكرم عبيد بعدما دق القصر الملكى - أحمد حسنين باشا تحديدًا - الإسفين التاريخى لتمزيق الوفد عقوبة للنحاس باشا على موقفه المتعنت ورفضه لطلب الملك فاروق بتشكيل حكومة ائتلافية وإصراره على أن تكون وفدية بحتة فى 4 فبراير عام 1942، وفى ظنى أن حزب الوفد من عام 1918 حتى عام 1952 هو الوعاء الحقيقى للحركة الوطنية ورمز المقاومة ضد الاحتلال، وهو الذى ألف بين قلوب المسلمين والأقباط لتعود الأمور إلى سيرتها الطبيعية حتى إن (عزيز ميرهم) القبطى كان هو من قاد حركة الرفض لتخصيص مقاعد للأقباط فى البرلمان وكان منطلقه فى ذلك وطنيًا بحتًا لا ينظر إلى الطائفة إطلاقًا، ويهمنى هنا أن أسجل أن انضواء الأقليات العددية تحت ظل العرش يبدو أحيانًا أقوى منه فى النظم غير الملكية لأن الجميع ينظرون إلى التاج باعتباره رمز الوحدة ويعتبرون الملك خارج المنافسة، ولقد رأيت بعينى حاخامات اليهود من أصول مغاربية وهم يقبلون يد الحسن الثانى ملك المغرب الراحل أثناء إحدى زياراته للعاصمة الفرنسية، فالعرش فوق الجميع مهما تكن توجهاته واهتماماته، وعندما قامت ثورة يوليو عام 1952 وخلت حركة الضباط الأحرار من الوجود القبطى إلا ضابطًا صغيرًا فى الصف الثانى أو الثالث من الضباط الأحرار بدت للمحللين بعض مظاهر تأثير جماعة الإخوان على رؤية الضباط الأحرار حينذاك رغم أن عبد الناصر يعتبر حاكمًا علمانيًا بدرجة كبيرة وهو فى ذلك يشبه محمد على مؤسس مصر الحديثة، وعلى الرغم من أن علاقة الإخوان بالأقباط كان يشوبها دائمًا الرياء المتبادل والنفاق الظاهرى حتى إن مكرم عبيد باشا كان هو السياسى المصرى الوحيد الذى شارك فى تشييع جنازة حسن البنا بعد اغتياله، ولقد حددت الثورة المصرية مربعًا ضيقًا للحركة السياسية للأقباط فاستوزر جمال عبد الناصر أسماء محددة مثل جندى عبد الملك وكمال رمزى أستينو وكمال هنرى أبادير ولم يفتح الباب واسعًا لغير ذلك ولم ينزعج الأقباط لأنه البطل القومى الذى ضرب جماعة الإخوان المسلمين ضربتين كبريين فى عامى 1954 و 1965، وقد قال لى الدكتور لويس عوض فى غداء كنت فيه أنا وهو وحدنا بالنادى الدبلوماسى أن عبد الناصر كان يتسمع وعظات الكنائس فقلت له وأيضًا إلى خطب المساجد! فالمساواة فى الضغط على الجميع عدل، وعندما جاء السادات انفجر بركان الغضب وغابت الكيمياء الطبيعية بينه وبين البابا شنودة ولم يتمكن مثل عبد الناصر من احتوائه للبابا كيرلس السادس، وانتهى الأمر بالتدهور الذى دفع السادات لأن يقول قولته الشهيرة: (أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة)، وعندما وصل مبارك إلى الحكم بتوازنه المعروف وصبره المعتاد كان يميل إلى إنصاف الأقباط ولكنه كان دائمًا ينظر إلى المواءمة السياسية والتوازن الاجتماعى تحسبًا من المشكلات الطائفية التى زادت كثيرًا فى حقبتى السادات ومبارك، وإذا كان أكبر إنجاز لعبد الناصر على المستوى القبطى هو بناء الكاتدرائية، فإن أكبر إنجاز لمبارك كان هو إعلان السابع من يناير عطلة رسمية، وأظن صادقًا ودون شبهة نفاق أن السيسى يؤمن فى أعماقه بمفهوم المواطنة الكاملة وهو الذى يعيد بناء عشرات الكنائس ويزور الكاتدرائية فى أعياد الميلاد كل عام، إننا ننتقل بحق من مرحلة التهميش للأقباط إلى إنصافهم وفقًا لتعاليم الإسلام الذى يدعو إلى ذلك، وأظن أن الرئيس السيسى يحتكم فيما يفعل إلى إيمانه الدينى الذى يدعوه إلى المساواة بين أبناء الوطن، بقى أن نرى من الأقباط محافظين ورؤساء جامعات حتى تكتمل منظومة الإنصاف، خصوصًا أنهم يملكون من ثروة البلاد فى القطاع الخاص ما يصل إلى 30%، كما أن مساحات الأديرة الواسعة تعيد التوازن بين أعداد المساجد والكنائس على أرض الكنانة.. حماها الله للمسلمين والمسيحيين على السواء.
جريدة الاهرام
14 اغسطس 2018
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/666272.aspx