عندما لجأ الرئيس السودانى الأسبق (جعفر نميري) إلى القاهرة واستضافه الرئيس مبارك فى أحد قصور الضيافة فى شارع العروبة ــ لأن مصر هى ملاذ كل من يلجأ إليها أو يحتمى بها منذ فجر التاريخ سواءً كانوا ملوكًا أو رؤساء أو مناضلين من أجل الحرية والاستقلال ـــ وكنت أتردد عليه بحكم عملى فى مؤسسة الرئاسة وأنقل إليه بعض الرسائل من الرئيس الأسبق مبارك وكلها رسائل محايدة للترحيب به دون توقع قيامه بأى عمل سياسي، وكان النائب العام السودانى يطالب مصر كل يوم بتسليم جعفر نميرى إلى السودان لمحاكمته بعد الانقلاب الذى وقع ضده وكان رد الرئيس مبارك دائمًا: أنا لست سجانًا أحتجز البعض عندى ثم يتم تسليمهم فلمصر تقاليد عريقة فى اللجوء السياسى ولن تخرقها أبدًا، وفى ظل شدة التوتر بين القاهرة والخرطوم بسبب (نميري) لاحظت كلما زرت الرئيس نميرى أن السفير السودانى فى القاهرة والمستشار الإعلامى وعددا من السودانيين موجودون فى زيارته ويتناولون الغذاء معه، ونقلت دهشتى إلى الرئيس مبارك فقال لي: هذه هى التركيبة السودانية الرائعة يختلفون سياسيًا ويلتقون إنسانيًا! ونقلت دهشتى أيضًا إلى بعض الأصدقاء السودانيين، فقال لى مسئول كبير: إن الزعيم اليسارى السودانى (إبراهيم النقد) كان زميلًا للرئيس نميرى فى المدرسة وكان مطلوبًا للدولة السودانية وهاربًا من أحكام عليه ولكنه دعى ذات مرة فى عز الخلاف مع نميرى ليحضر احتفالًا مدرسيًا فى مدرسة (حنتوب) التى تخرجا فيها، والغريب أنهما جلسا معًا على المائدة، وجاء رجل المراسم قبل نهاية الحفل بربع ساعة ليهمس فى أذن الزعيم اليسارى بضرورة مغادرة االمكان والاختفاء مرة ثانية، وقد ضحكت من أعماقى ولكننى فهمت الفلسفة العميقة للأشقاء السودانيين الذين يرون أن (الاختلاف السياسى لا يفسد للود قضية) وأن ذلك تعبير عن الرقى الإنسانى والارتفاع عن الخصومات وتغليب المشاعر الدافئة على الرياح الباردة، وأنا أقول بهذه المقدمة إن علينا نحن المصريين أن نتعلم كثيرًا كيفية التعامل بين الأنداد والأضداد دون حساسية أو توتر، وأنا شخصيًا وطنت نفسى على ذلك ولم أسمح لها أن تحيل الخلاف السياسى أو الخلاف الفكرى إلى مبرر للقطيعة والعداء وشفيعى فى ذلك فهمى للملاحظات التالية:
أولًا: يجب أن ندرك جميعًا أنه لا توجد خلافات دائمة ولا مصالحات مستمرة كما لا توجد عداوات لا تنتهى أو صداقات لا تتأثر بمجريات الحياة، تصعد منها وتهبط، ودوام الحال من المحال لذلك يجب ألا يستهلكنا الخلاف أو تستغرقنا الاختلافات بل يجب أن نعلم دائمًا أن لكل شيء نهاية وأن الاعتدال هو أوفق أساليب الحياة لأنه يحول دون الشطط فى أى اتجاه ويجعلنا نمضى بتعقل وروية ونحترم خيارات الآخر مدركين أن الخلاف بين البشر أمر طبيعى ولا يمكن أن نتفق جميعًا على رأى واحد وما قاله (الإمام الشافعي) فى هذا السياق معروف فى الحضارة العربية الإسلامية كما أن مقولة (فولتير) فى ذات المعنى فى الحضارة الغربية المسيحية يؤكد كله أن الحياة لا تمضى على وتيرة واحدة وليس لها رأى واحد أو موقف ثابت.
ثانيًا: لقد تعلمت من الهنود الذين عشت بينهم أربع سنوات أنه إذا كان لك مشكلة مع شخص ما فلا تجعل الكراهية هى طريقك بل ابحث عن المودة والحب سبيلًا للتسوية إذ ينبغى أن تقترب من خصمك وتتعامل معه بروح مختلفة مسقطًا من حسابك مشاعر البغضاء وهواجس الانتقام وغالبًا ما تكون النتائج إيجابية وفى مصلحتك، فالحكمة تقتضى أن ندرك أن لكل منا رأيه وخياراته ولا يمكن أن ندور جميعًا حول فكرة واحدة.
ثالثًا: إن القفز فوق الخلافات والمواجهة المباشرة للأزمات والمحاولات المبكرة لحل المشكلات هو أسلوب يعبر عن سياسة تجاوز المساحة الزمنية الضيقة إلى رحابة العالم حولنا لأننا نعرف أن أى مشكلة ليست نهاية المطاف، فالعالم متسع أمامنا وإذا كانوا قد قالوا قديمًا (إذا اتفقت الأذواق بارت السلع) فإننا نقول إنه إذا تجمدت الآراء توقفت حركة الحياة واضطرب نظام الكون.
إن اختلاف الآراء وتباين الأفكار دليل على الحيوية وتعبير عن فلسفة الحياة.
جريدة الأهرام
21 اغسطس 2018
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/667232.aspx