وقر فى ذهن شعوب هذه المنطقة من العالم ـ وأعنى بهم أولئك الذين يقطنون غرب آسيا وشمال إفريقيا - أن الحداثة والتقدم والنهضة والرقى ترتبط كلها بمشروع غربى تتجه فيه الأنظار إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وأن أمم الشرق الأخرى لا تصدر هذا النوع من عدوى النهوض وعوامل اليقظة، وهذا فكر كلفنا كثيرًا فى هذه المنطقة من العالم بل وأفاد الغرب ومكنه منا وجعله يسيطر علينا عبر القرون الأخيرة ولكن قراءة الأمر تعطى دلالات مختلفة ومؤشرات أخري، فتجارب الشرق خصوصًا بدءًا من جنوب آسيا حيث الهند باعتبارها أمة عظيمة ذات ثقل كبير لا يتجاوزها إلا الوجود الصينى بحجمه الضخم وتميزه الواضح وتفوقه الكاسح، ثم تأتى التجربة اليابانية لتجعل الأمر أكثر إحكامًا ودقة حيث (ذكاء اليدين) والقدرة المطلقة على محاكاة الآخر والنقل عنه وتطوير ما ينتجه فأصبحت تلك الأمم الكبرى الثلاث مصدر إلهام جديد لشعوب ارتبطت بالغرب طويلًا وعاشت فى ظل وهم مستبد يرى أن التحديث هو التغريب بينما هناك طاقات إيجابية يمكن أن تشع علينا من المشرق، ولقد فطنت الأمم القديمة لذلك فكانت بلاد وسط وشرق آسيا هى مستودعات لصناعة التكنولوجيا وتصدير تجربتها الذاتية إلى الخارج، ولقد عشت شخصيًا فى الهند ورأيت كيف أنهم أقاموا أكثر من ثمانية عشرة كوبرى علويا فى العاصمة نيودلهى خلال شهر واحد عام 1980 استعدادًا لاحتضان دورة الألعاب الرياضية لدول (الآسيان) معتمدين على الميزة النسبية لديهم وهى وفرة العمالة اليدوية تعويضًا للنقص النسبى فى التقدم التكنولوجى مقارنة بالدول الغربية فى ذلك الوقت، وإذا تأملنا المعجزة الصينية والمدن الصناعية الكبرى الجديدة التى صنعها المارد الصينى وتجسدت فى (شنغهاي) وأخواتها فإننا نبدو متأكدين من أن تلك الدولة العظمى التى عانت ذات يوم (حرب الأفيون) هى اليوم تبدو فى صدارة العالم الصناعى حيث إن منتجاتها تغرق جميع الأسواق بما فيها الأمريكية اعترافًا بغزارة الإنتاج ومحاولة تحسين نوعيته حتى أصبح المنتج الصينى يضاهى المنتجات الغربية مع أسعار غير قابلة للمنافسة وهو ما يعنى أن قدرة الصين على تصدير المعرفة هى قدرة لم تعد محل جدال، فإذا تأملنا التجربة اليابانية فإننا أمام معجزة بحق إذ إنه منذ انتصار تلك الدولة على روسيا عام 1905 وهو ذلك الانتصار الذى جسده الزعيم المصرى الشاب مصطفى كامل فى كتاب تحت عنوان (بلاد الشمس المشرقة) وكأنما استرد الشرق جزءًا كبيرًا من الثقة بالنفس أمام دولة تعتبر أوروبية فى النهاية، ولقد نظرت مصر دائمًا إلى تلك القوى الصاعدة الثلاث نظرة مجردة من الأطماع أو المخاوف حيث برز المشروع النهضوى الآسيوى بديلًا محتملًا أو مكملًا أساسيًا للمشروع النهضوى للغرب مع خلو المشروع الجديد من عوامل السيطرة وأسباب الاستغلال، والأمر يدعونا هنا إلى تأمل الملاحظتين التاليتين:
أولًا: إن المزاج الشرقى لا يبدو بعيدًا عنا أو غريبًا علينا، ولقد تعلمت من حياتى فى الهند أننا مجموعة من الشعوب تنتمى إلى مصدر واحد وتنطلق من تاريخ متشابه ومعاناة مشتركة، وإذا كان الإنسان الأبيض قد تسيد العالم بعد عصر النهضة الأوروبية وبداية الاستكشافات الجغرافية وصولًا إلى الشاطئ الآخر من الأطلنطى ثم بروز الظاهرة الاستعمارية التى سيطرت فيها بريطانيا وفرنسا فإن ذلك كله كان إيذانًا بغرس شعور لا واعٍ بأن الغرب هو السيد وأن حضارته هى التى تقود حيث أسهمت التكنولوجيا الحديثة فى تأكيد هذا المعنى وترسيخه بينما كانت بعض دول الشرق ترزح تحت وطأة مشكلاتها الداخلية وصراعاتها الطائفية ومعاناتها الوطنية بدءًا من (مسيرة الملح) فى الهند إلى (الزحف الكبير) فى الصين مرورًا بحروب اليابان مع الجيران، ولقد حان الوقت لكى ندرك أن الاتجاه شرقًا على (طريق الحرير) أو ما يوازيه هو مسلك طبيعى لشعوب تتطلع إلى التقدم الصناعى والتطور الاجتماعى فى ظل ظروف صعبة للغاية.
ثانيًا: لقد وجدنا دائمًا فى أصدقاء الشرق رفاقًا مخلصين فى كثير من المواقف والظروف فقد كانت الصين والهند إلى عهد قريب داعمتين لقضية الشعب الفلسطينى العادلة، وعندما بدأت بعض الدول العربية تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل فإن هاتين الدولتين لم تجدا حرجًا فى إقامة علاقات وثيقة مع الدولة العبرية ويكفى أن نعلم أن الهند قد فتحت قناة للتعاون مع إسرائيل منذ أكثر من عقدين من الزمان فى المجالات التكنولوجية والعسكرية بل والنووية أيضًا، وإذا كانت اليابان هى المانح الثانى للاجئين الفلسطينين بعد الاتحاد الأوروبى فإن الأمور قد اختلفت الآن وسقطت ورقة التوت وانهار (التابو) وأصبح علينا أن نتعامل مع القوى الآسيوية بمعايير العصر ومقاييس الزمان دون أن نفرض عليهم بمنطق العاطفة ما لا يقدرون عليه ولا يتفهمون دوافعه ويكفى أنهم مؤيدون للحد الأدنى من قضايانا العادلة فى هذا الزمان الرديء.
هذه قراءة سريعة فى ملف التحديث والعصرنة الذى تتجه إليه دولنا بعيدًا عن الهبوط السياسى والتخلف الفكرى واللهاث وراء الغرب بأفكاره وسياساته ونبرة الاستعلاء لديه ورواسب التاريخ التى تؤدى أحيانًا إلى تكريس الثقة المفقودة وتعويق المسيرة المنتظرة ونشر روح الإحباط فى صفوف الدول الآسيوية والإفريقية.
جريدة الاهرام
18 سبتمبر 2018
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/671370.aspx