تعاملتُ من خلال موقعى فى مؤسسة الرئاسة مع علماء «الأزهر الشريف»، وفى مُقدِّمتهم الإمام الراحل «جاد الحق على جاد الحق»، شيخ الأزهر الأسبق، وقد كان عالمًا هادئًا وقورًا أمضى كل حياته فى القضاء الشرعى، ثم تولَّى الوظائف الثلاث الكبرى على المستوى الدينى، فكان مُفتى الديار المصرية، ثم وزير الأوقاف، ثم شيخ الأزهر بعد وفاة الشيخ «عبدالرحمن بيصار» الذى كان ذات يوم مديرًا للمركز الإسلامى فى «واشنطن»، وحضر افتتاحه عام 1959 مع الرئيس الراحل «دوايت أيزنهاور».
نعود إلى شيخنا الجليل «جاد الحق» الذى كان يتميَّز بصلابة لم أرَ لها مثيلاً؛ فهو لا يُغيِّر رأيه حين يلتزم به، ويُؤمن باستقلالية الأزهر وكرامة عُلمائه، وكانت له فتاوى يختلف فيها مع التوجُّهات الرسمية للدولة تتَّصل بأرباح البنوك، والحجم الأمثل للأسرة المسلمة، ومشروعية الاستماع إلى الفن ومُشاهدة كل أعماله، ولم يُساوم الشيخ على مواقفه تلك، وظل قابضًا على آرائه لا يتنازل عنها ولا يتردَّد.
وأتذكَّر أن الرئيس الأسبق «مبارك» قد أوفدنى إلى فضيلته برسالة تتَّصل ببيان يزمع «الأزهر» إصداره حول تقويم الساحة الفنية فى البلاد، وقد ذهبتُ إلى الشيخ الذى أعرفه جيدًا، فاستقبلنى استقبالاً طيبًا، وتباسطنا فى الحديث ساعة أو بعض ساعة، وحكى لى يومها بعض الطرائف فى التاريخ الإسلامى، منها قصة «الحجاج بن يوسف الثقفى» وزوجته «هند» وزفافها إلى أمير المؤمنين الأموى بعد طلاقها من «الحجاج» المعروف بالعنف والغلظة، وصاحب الخطبة الشهيرة من فوق منبر المسجد الجامع فى «بغداد» عندما قال للعراقيين: «إنى أرى رءوسًا قد أينعت، وحان قطافها!».
ولأن الشيخ كان ودودًا فى جلساته الخاصة، فإنه أمعن فى إكرامى، وعندما كنتُ مُغادرًا وهو يُودِّعنى لدى الباب قُلتُ له: يا مولانا، هل أعتبر أن وجهة نظر الرئيس مقبولة، وأن طلبه سوف يُلبَّى؟ فقال لى: «لا.. للرئيس ما يراه، فهو ولىُّ الأمر، وللأزهر ما يراه، فهو حارس العقيدة!». وعندما عُدتُ إلى الرئيس وأبلغته بأن الإمام الأكبر لا يتحمَّس لوجهة نظر الدولة أبدى إعجابه بصلابة الشيخ، ووافقت الدولة على ما ارتآه.
وعندما تحدَّد موعد عقد قران ابنتى الكبرى فى 11 يناير عام 1995 قرَّر الشيخ -وهو الإمام الأكبر- أن يحضر عقد القران بنفسه فى منزلى، خلافًا لتقاليده المعروفة، رغم موقعه الكبير، وقد فعل ذلك عن رضا ومحبَّة لا أنساها له.
ومازلتُ أتذكر أن الرئيس قد استقبل الشيخ «جاد الحق» فى مكتبه ذات صباح ودقَّ لى الرئيس الجرس ستَّ مرَّات لأدخل إليه ويُعطينى كل مرَّة تعليمات بأمور يطلبها الشيخ، وهى تتَّصل بمناهج التربية الدينية فى المدارس، وخُطب الجمعة فى المساجد، وموقف الإعلام من الأزهر، وغير ذلك من الموضوعات التى يتمسَّك فيها الشيخ بوجهة نظره تمامًا دون تردُّد أو تنازُل، وكنتُ ألاحظ أن الرئيس الأسبق «مبارك» يُقدِّره كثيرًا -شأن تقديره الواضح لعُلماء الدين الإسلامى والمسيحى ورجال سلك القضاء- وذات يوم وصلت إلىَّ شكوى من بعض الأزهريين ينتقدون فيها الشيخ ويتَّهمونه فى ذمَّته المالية، رغم أن ذلك كان أبعد ما يكون عنه، وقالوا إنه يستخدم أحد المبانى الأزهرية فى حى المعادى كاستراحة له، ولم يكن ذلك صحيحًا، وعندما قرأ الرئيس الشكوى كان الشيخ على موعد معه بعدها بأيام، فقال لى الرئيس: «عندما يأتى الشيخ أحضر الشكوى معك، وسوف أطلبك لتدخل بها عند لقائه».
ولمَّا جاء الإمام الأكبر، وبعد دقائق من جلوسه مع الرئيس طلبنى قائلاً: «لا تأتى بالشكوى ومزِّقها، عيب أن ينال هذا المنصب الرفيع لهذا العالم الجليل مثل هذه الاتِّهامات الكاذبة والكيدية!»، وكنتُ أعلم أن الشيخ يعيش فى شقة متواضعة فى الدور الرابع بعمارة قديمة دون مصعد رغم كبر سِنِّه، حتى إن الشيخ «الشعراوى»، رحمه الله، قرَّر أيامها أن يشترى للإمام الأكبر شقَّة بديلةً بارتفاع مُنخفض، أو بوجود مصعد.
لقد كان الشيخ بحق هو «جاد الحق»، وكان يُمثِّل البقيَّة الباقية من صلابة عُلماء الإسلام ورجاله الكبار، وقد مضى على دربه بعض العُلماء الذين تمثَّلوا تقاليد السَّلف الصالح، ولفظوا التطرُّف والغُلوَّ والعُنف، ومضوا مع وسطية الإسلام فى كل المواقف وتسامُحه تجاه الآخر إعمالاً لكتاب الله وسُنَّة رسوله، وعندما رحل الشيخ عن عالمنا كان فقيرًا لا يملك شيئًا، ومازالت ذكراه وفتواه محل تقدير حتى مع من اختلفوا معها أو لم يأخذوا بها.. رحمه الله.
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 271
تاريخ النشر: 29 مارس 2018
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%b4%d9%83%d9%88%d9%89-%d9%83%d9%8a%d8%af%d9%8a%d9%91%d9%8e%d8%a9-%d8%b6%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d9%8a%d8%ae-%d8%ac%d8%a7%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%82/