فى مطلع سبعينات القرن الماضى، كنت دبلوماسيًّا فى السفارة المصرية، وفى نفس الوقت أدرس للدكتوراه فى كلية الدراسات الشرقية والأفريقية فى «جامعة لندن»، وقد تواكب ذلك الوقت مع وجود المهندس «خالد جمال عبدالناصر» للحصول على الدكتوراه فى الهندسة، وجمعتنى به صداقة قوية، فهو إنسان نقى، ورث عن والده صفاته الطيبة، بينما كان شقيقه «عبدالحميد» زميلى الأحدث فى السفارة المصرية بـ«لندن»، وذات يوم كنا -«خالد عبدالناصر» وأنا– فى جولة بـ«عاصمة الضباب» وقررنا الاستراحة قليلاً فى منزله بالدور الأول فى بناية كبيرة قرب وسط المدينة، وفتح «خالد» الباب، ليجد رسالة فى المدخل، مُوجَّهة إليه من السيد «جمال أنور السادات»، الذى كان فى زيارة لـ«لندن» مع السيدة الفاضلة والدته، والذى يهمنى هو فحوى الرسالة فقد كتب إليه يقول: (أخى الكبير «خالد»، حضرت لزيارة حضرتك، ولكن لم أجد حضرتك وأرجو قبول تحياتى، وأنت واحشنى، وأرجو أن تكون حضرتك بخير. إمضاء «جمال السادات»)، والرسالة كما هو واضح تقطر أدبًا ورقَّةً، وتلك صفة لصيقة بالسيد «جمال السادات» طوال حياته، عرفها عنه الجميع، وهو من فرط أدبه يتعامل مع الناس جميعًا باحترام شديد وتوقير زائد، لأن والدته قد ركزت فى تربيته إلى جانب شقيقاته البنات على زرع أصول الذوق العام والذكاء الاجتماعى فيه والذى تتميز به، ولقد تأثر «خالد» بالرسالة وتبادلنا معًا الإشادة بأخلاق هذا الشاب الصغير ابن رئيس الجمهورية الحالى مخاطبًا ابن رئيس الجمهورية الذى رحل، ولقد جمعتنى زمالة الدراسة بزميلتى المحترمة الأستاذة الدكتورة «هدى جمال عبدالناصر» وكنت دومًا قريبًا من العائلة، حتى أن الرئيس الأسبق «مبارك» كان يُحمِّلنى رسائله الودية إليهم من حين لآخر، كما كان يحمل إعزازًا خاصًا أيضًا لـ«جمال أنور السادات».
وأتذكر الآن كثيرًا من المصاهرات المتبادلة بين رجال الثورة وقادتها، فشقيق الرئيس «عبدالناصر» كان متزوجًا من ابنة المشير «عبدالحكيم عامر»، كما أن «عفت عصمت السادات» متزوج من ابنة شقيق الرئيس «عبدالناصر»، كما أن «جمال عبدالناصر الثانى» ابن الدكتور المهندس الراحل «خالد جمال عبدالناصر» متزوج بحفيدة «صلاح سالم»، وهذا التشابك الاجتماعى يعكس قدرًا كبيرًا من التشابه الأسرى والتقارب العائلى رغم وجود بعض الخلافات السياسية بين أصول تلك الأطراف، ولقد خرج المهندس «عبدالحكيم جمال عبدالناصر» عن هذا السياق ليقترن بابنة أسرة مرموقة تمت بصلة لعائلتى «بدراوى» و«سراج الدين» فكانت هى المصاهرة المتميزة بين عصرى ما قبل 23 يوليو وما بعدها.
إننى بهذا العرض الموجز إنَّما أحاول اقتحام قضية شائكة وهى طبيعة أبناء الرؤساء وأسلوب تربيتهم وكيفية التعامل معهم، ولقد سمعت النجم العالمى الراحل «عمر الشريف» وهو يسأل السيدة الفاضلة «سوزان مبارك» على مائدة عشاء أثناء معرض الكتاب الدولى فى «فرانكفورت» عن أسلوب تربيتها لولديها، مُشيدًا بهما خلقًا وتربية، والأمر يمتد دائمًا إلى أولاد المشاهير الذين قد لا يتفوقون على آبائهم، ولكنهم يتطلعون فى منافسة مكتومة إلى مواقع لا تقل كثيرًا عمَّا حققه الآباء، وتلك فى ظنِّى هى المعادلة الصعبة التى تجعل ابن المسئول الكبير يلهث وراء المستقبل سعيًا إلى الاقتراب من مكانة أبيه وإن لم يتفوق عليه، ولقد رأينا دائمًا نماذج مشرقة من أبناء الملوك والرؤساء والأمراء، ووجدنا أيضًا على الجانب الآخر نماذج سيئة لهذه التركيبة الهامة من البشر.
من هنا فإننى أقول إن ابن المسئول الكبير إذا جرت تربيته بمجموعة من القيم فإنه يكون نموذجًا مبهرًا وفى ذات الوقت إذا جرى إهمال ذلك فى غمار مسئولية أبويه فإنه يكون نموذجًا لتربية الخدم وبعض موظفى المكاتب، إنها معادلة صعبة تلزم المشاهير بأن يبدأوا بأبنائهم وبناتهم من الصغر حتى إذا بلغوا سن الشباب استطاعوا أن يقرروا لأنفسهم ما يريدون، لقد أصاب «الإمام على» -كرم الله وجهه- كبد الحقيقة عندما قال: «لا تربوا أبناءكم كما رباكم آباؤكم، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم»، إنها دورة الحياة ورحلة الأعمار فى زمن متغير وإيقاع سريع.
د. مصطفي الفقي;
مجلة 7 أيام العدد 272
تاريخ النشر: 3 ابريل 2018
رابط المقال: https://www.7-ayam.com/%d8%ae%d8%a7%d9%84%d8%af-%d8%b9%d8%a8%d8%af%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%a7%d8%b5%d8%b1-%d9%88%d8%ac%d9%85%d8%a7%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%a7%d8%af%d8%a7%d8%aa/