تختلف رغبات الحكام وكبار المسؤولين الذين يأتون لمصر فى زيارات رسمية تجاه ما يرغبون فى رؤيته وما يطلبون زيارته من مواقع أثرية أو مناطق سياحية داخل البلاد.. وأنا أتذكر أن الرئيس العراقى الراحل عبدالرحمن عارف - وقد كان رجلًا طيبًا آلت إليه رئاسة العراق بعد وفاة شقيقه الرئيس عبدالسلام عارف فى حادث طائرة تحيط به الشكوك، فحكم عبدالرحمن عارف العراق لفترة قصيرة اتصفت بالهدوء النسبى حيث عرفه العراقيون حاكمًا طيبًا ورئيسًا معتدلًا، وأطاح به انقلاب لم يرَ أن هناك مبررًا لإيذائه بل الاكتفاء بترحيله خارج البلاد وأظنه اختار تركيا فى ذلك الوقت- المهم أن الرئيس عبدالرحمن عارف عندما جاء فى زيارة رسمية لمصر وعرضوا عليه برنامج الزيارة، اختار أن يزور حديقة الحيوان بالجيزة لعراقتها وشهرتها وتنوع ما فيها من حيوانات وطيور!.
وتختلف أمزجة الزائرين عند الاختيار، فالرئيس التونسى الراحل على زين العابدين عندما زار مصر طلب أن يلتقى بأديب نوبل نجيب محفوظ، وأن يزور بيت عبدالوهاب ثم المتحف المصرى، وهذه الرغبات انعكاس لشخصية الشعب التونسى الشقيق المحب للثقافة، العاشق للفن، الذى تربطه بمصر روابط تاريخية وثيقة تمتد من ابن خلدون حتى تصل إلى بيرم التونسى. وقد ذكر رئيس وزراء مصرى سابق أمامى أنه كان فى زيارة لتونس، وكان نظيره يتباهى بأن أباه حضر حفلًا لعبدالوهاب فى مطلع خمسينيات القرن الماضى!.
أقول ذلك بمناسبة الزيارة الأخيرة التى قام بها رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد، وقد كان أستاذًا جامعيًا مرموقًا، لذلك تركزت زيارته لمصر على المعالم الثقافية البارزة، وحضر أمسية تونسية مصرية فى دار الأوبرا بحضور وزيرة الثقافة د. إيناس عبدالدايم، واتسمت زيارته بالفهم الواضح للحضارة المصرية والتراث المتراكم على أرضنا الطيبة، فكان معنيًّا بالمتاحف ودور الفن أكثر من اهتمامه بالمزارات السياحية أو الشواطئ المصرية، واتسم حديثه بالاحترام والتوازن، وأبدى دعمًا تونسيًا قويًا لحقوق مصر فى حصتها القانونية والتاريخية من مياه النيل، والشعب التونسى قدم لمصر نماذج فنية رائعة بأسماء معروفة مثل الفنانات هند صبرى ولطيفة ودرة وغيرهن من الأسماء اللامعة فى عالم الطرب والغناء والسينما بحيث لا تكاد تكتشف الفوارق بينهن وبين غيرهن، فالروح واحدة والثقافة مشتركة والمزاج العربى يسيطر على الجميع.. وأنا أظن أن الحاكم الذى يتذوق الفن ويتعاطى الأدب هو أقدر على فهم شعبه من حاكم آخر لديه خصومة مع الثقافة والفنون والآداب، وما زلنا نذكر أن الرئيس الراحل السادات قد أمضى سنوات من حياته قبل ثورة يوليو 1952 فى مجال الصحافة، وغير بعيد عن الفنون الشعبية، ومرتبطًا بأسماء مثل زكريا الحجاوى ومحمود السعدنى وغيرهما من حرافيش ذلك الزمان.. فالرؤية الأدبية والفنية توسع المدارك وتفتح باب الرؤية وتجعل القدرة على فهم الأمور واتخاذ القرارات أكثر شعبية وأشد التصاقًا برجل الشارع صاحب المصلحة الأولى فى القرارات الرشيدة والأحكام العادلة. ولا عجب أن يتصرف رئيس تونس أثناء زيارته بهذه اللياقة الفكرية من خلال رؤية ثقافية تؤكد تاريخ التواصل المشترك بين البلدين العربيين الإفريقيين فى كثير من المناسبات، ولعلنا نتذكر بهذه المناسبة أن أحد أئمة الأزهر الكبار الذى تولى منصب المشيخة، وهو الشيخ الخضر حسين كان تونسيًا من أصول جزائرية، وكأنما هو مبعوث جامعة الزيتونة فى تونس إلى الأزهر الشريف أكبر مركز إسلامى سنى فى العالم المعاصر، ولقد كان اختيار الرئيس الراحل عبدالناصر له تعبيرًا عن وحدة العالمين الإسلامى والعربى على كل المستويات.
إن زيارة الرئيس قيس سعيد المعروف باستقامة الكلمة ووضوح الفكرة قد وضعتنا مرة أخرى أمام قضية العلاقة بين الثقافة والسياسة وسقوط نظرية الخصومة بينهما دون مبرر، فالسياسى المثقف يكون أعرف بحقائق الحياة ودروب السياسة أيًا كانت خلفيته ودون النظر لطبيعة تأهيله، فالثقافة منحة إلهية تقتحم الوجدان لتجعل من صاحبها إنسانًا عصريًا يدرك ما حوله ويكون قادرًا على قراءة المستقبل واستشراف ما هو قادم.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2320248